- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
تنتجه الإرادات لا المؤتمرات
لبنان مقرّ وممرّ لقوافل المصالح الإقليميّة - الدوليّة!
أقحوانية الربيع دوليّة، وضعت إكليل غار فوق هامات من هم على خطّ النار، أبطال «فجر الجرود»، وكل فجر روى بطولة في كتاب الخلود، أو تلا أمثولة عن مآثر الجنود الميامين، أحفاد فخر الدين.
أقحوانية الربيع، تصدّرت مؤتمر روما. لم تعد الأرقام هي القضيّة، ولا بلاغة اللغة، ورصف المفردات، بل المعادلة التي فرضت نفسها على أكثر من 40 دولة، تهيّبت، وشاركت، ووعدت في أن يكون لها دور في دعم مَن طهّروا الوطن من شياطين الإرهاب.
مواعيد الحصاد
سنونوات الربيع الواعد تحوم في فضاءات روما وباريس وبروكسيل، فمتى أوان الزرع، ومتى مواعيد الحصاد؟
تأتي التباشير على وقع حدَثَيْن متلازِمَيْن، انتهاء مرحلة الفراغ بانتخاب رئيس للجمهوريّة، وانتهاء مرحلة التمديد للمجلس النيابي عن طريق العزم على إجراء الانتخابات وفق المواعيد المحدّدة، وما بين الاستحقاقَيْن ترعرعت المبادرات الدوليّة تحت شعار توفير الدعم، واستنهاض الهمم الوطنيّة لبناء الدولة القوية القادرة والعادلة. إنّها لعبة المصالح المشتركة، والدول ليست بجمعيات خيريّة تندفع مجّانًا للقيام بعمل إنساني، إنها شبكة مصالح تأخذ بعين الاعتبار الوضع الأمني، والظروف المؤاتية، والضمانات المناسبة، وهي متوافرة. يقول المجتمع الدولي إنّه ضد الإرهاب، وقد كان لبنان السبّاق في كسر شوكته. ويقول بالديموقراطية، وحقوق الإنسان، ولبنان هو الشغوف بالامتثال إلى هذه القيم، وتحديدًا في هذه البقعة من العالم. ويقول بالأمن والاستقرار، ولبنان هو المثل والمثال، على الرغم من العواصف الهادرة، والأعاصير الغادرة التي تتدافع من حوله. حتى أنّ البعض من الدول قد انخرط طوعًا في ماراتون المصالح الكامنة في الساحات الساخنة، فيما البعض الآخر قد سلك الطرق الآمنة، وقرّر الدخول إلى عبّ المنطقة عبر البوابة اللبنانية المستقرّة للبحث عن فرص عمل، ومجالات للاستثمار.
الرياح محليّة... والسفن دوليّة
في محصّلة أوليّة، غير دقيقة، يتبيّن أنّ 173 وفدًا قد زار لبنان في العام 2017، ما بين أمني، ومالي، واقتصادي، وسياسي، هذا فضلًا عن المؤتمرات التي استضافتها بيروت، وتحتسب بالعشرات، كلّ ذلك للتأكيد على حيويّة البلد، وموقعه، ودوره، وثقافته القائمة على الانفتاح. وتكفي الإشارة إلى «المجموعة الدوليّة لدعم لبنان»، والتي أبصرت النور في أيلول 2013، على هامش اجتماعات الدورة العاديّة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة، ومهماتها واضحة من العنوان الذي اتّخذته شعارًا لها، وربما وجدت من خلال متابعاتها لمجريات الأمور على الساحة اللبنانية بأنّ الأوان قد حان لعقد مؤتمرات خاصة بلبنان. هنا تختلط التحليلات المغرضة، بالعواطف البريئة، لاستنهاض حالة متعاطفة مع هذه المؤتمرات عن طريق تشخيصها وكأنّها كرم على درب تضيق في أرجائها السلال الطافحة بالأرقام، والمساعدات، والاحتياجات، في حين أنّ الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذا الواقع. وما يتمّ تداوله في المحاضر الرسمية لا يعدو كونه رغبات، وتمنّيات، وخطط مستقبليّة على مدى سنوات خمس، لا تأخذ طريقها نحو التنفيذ، إلّا إذا هبّت الرياح المحليّة وفق ما تشتهي أشرعة السفن الدوليّة، وعلى قاعدة: «كما تراني، أراك يا جميل؟!».
مبادرة... ومبادرون
كانت فرنسا المبادرة. وهنا تعدّدت الأسباب والروايات. هناك من يقول إنّ الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي وصل إلى قصر الإليزيه مترسملًا بثقة كبيرة واسعة منحها له الناخب الفرنسي في صندوق الاقتراع، أراد العودة إلى الشرق الأوسط بسياسة مختلفة، ونظرة جديدة، وقرّر أن تكون العودة عبر البوابة اللبنانية، حيث يقف تاريخ طويل من العلاقات الثنائية مع محطّاتها الاستثنائيّة. وهناك من يقول إنّ الرئيس الفرنسي الشاب والمندفع، قرر أن يفعل شيئًا من أجل لبنان بعد انتهاء زمن الفراغ، وانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، وانطلاق مسيرة بناء الدولة والمؤسسات، ووقع خياره على عقد مؤتمر دوليّ لدعم لبنان على غرار «باريس 1، وباريس 2، وباريس 3». وهناك من يقول إنّ رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، وخلال «زيارة الدولة» التي قام بها إلى باريس، طلب من نظيره ماكرون العمل على عقد مؤتمر دولي لدعم لبنان، والشيء نفسه طلبه رئيس الحكومة سعد الحريري خلال زياراته المتعددة إلى فرنسا، ولقاءاته المتتالية مع الرئيس ماكرون.
ربما لم يعد الظرف ملائمًا للحديث عن المبادرات والمبادرين لعقد هذه المؤتمرات، بل ملائم جدًا للحديث عن المرتجى، والنتائج، وخارطة الطريق، وحقيقة ما يريده لبنان، وما يريده المنظّمون والمشاركون من لبنان؟ يبدو من المنظار المحلّي أنّ معالم الطريق باتت واضحة، وتبلورت أكثر خلال الاجتماعات التحضيريّة الممهّدة، وأوراق العمل المتبادلة، والتي تؤسّس لانعقاد أيّ مؤتمر، كي يأتي على مستوى الآمال، والطموحات، وما تمّ التفاهم عليه في هذا المجال، هو أن ينطلق القطار وفق خارطة الطريق اللبنانية، ويتوقف عند محطات خمس: معالجة قضيّة النازحين، معالجة قضيّة اللاجئين، النفط، الفساد، اللامركزيّة الإداريّة - الإنمائيّة.
نكهة أميركيّة
عندما زار وزير الخارجيّة الأميركي السابق ريكس تيلرسون العاصمة اللبنانية، قال كلامًا مفيدًا في القصر الجمهوري، وفي السرايا الحكومي حول التزام بلاده دعم المؤتمرات الخاصة بلبنان، ومدى استعدادها للمساهمة في توفير فرص النجاح لها بعد اطّلاعه على الملف، وما يتضمّن من أعباء وأثقال تتحمّلها هذه الجمهوريّة من جرّاء شلال النزوح الهادر الذي يصبّ في سهولها وروابيها. واستعاد من الذاكرة ما سمعه من الرئيس عون عندما حمل هذا الملف - القضيّة، إلى أروقة الأمم المتحدة، ومنبر الجمعيّة العامة، في أيلول الماضي، محذّرًا من أخطار خمسة تصيب الكيان اللبناني في الصميم: تزايد التدفّق، تزايد الولادات (أكثر من 300 ألف ولادة في العام)، دمج المجتمع الوافد بالمجتمع المقيم، مزاحمة اللبنانيين على فرص العمل، وترهّل البنى التحتيّة.
في زحمة المواقف والعواطف يبقى السؤال قائمًا: لماذا على الدول أن تبادر، وتساعد؟ ويأتي الجواب سريعًا على لسان بعض الدبلوماسيّين المعنيّة دولهم بالشأن الإقليمي – الشرق أوسطي: «لأنّ للدول مصالح، غير قابلة للنشر، غير قابلة للتفاوض، إنّها من أسرار الدولة، وعندما ينكشف السر، يفترض أن يكون قد أخذ طريقه نحو التنفيذ». أضف إلى ذلك، أنّ بعض ما يعانيه لبنان - أو الكثير ممّا يعانيه - ليس من ماركة «صنع في لبنان»، بل صنع في الخارج، وصُدِّر إلى لبنان، والدليل مأساة النزوح، ومن غير المقبول تحميله الأوزار والتَّبِعات. أمّا الخيارات المتاحة فضيّقة للغاية، إمّا إيجاد المخارج من قِبل أولئك الذين يمسكون جيدًا بمَقْدِرات الحل والربط، أو الانفجار الاجتماعي - الاقتصادي - المعيشي، وهذا في حال حصوله، سيدفع بمراكب الموت إلى التحرّك من جديد، لكن هذه المرّة من الشواطىء اللبنانية ناقلة النازحين إلى الشواطىء الأوروبيّة، الأمر الذي يشكّل حافزًا مهمًا يفرض على الغرب الاستفاقة من لامبالاته، ويدعوه إلى عقد المؤتمرات للدول المانحة بهدف تهدئة الخواطر؟!
مصير حق العودة
بالتوازي مع ملف النزوح، يتفاعل ملف اللاجئين. وعندما طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب مصير القدس ومستقبلها على بساط البحث، لم يكتفِ لبنان بتسجيل موقف، بل ذهب إلى الأبعد مطالبًا بتوضيح مصير حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، مع تأكيد موقفه الوطني السيادي الرافض للتوطين. قد يقال هنا إنّ القافلة تمضي وفق المخطط المرسوم لها من قبل المجتمع الدولي، ولكن «من يأكل العصي، ليس كمن يعدّها»، وهناك واقع لا يمكن تجاهله أو التعامي عنه؛ وإذا كان السلم الأهلي، والاستقرار الاجتماعي من أولويات الثوابت التي تنادي بها المؤتمرات الدوليّة للحفاظ على التوازنات الدقيقة في التركيبة المجتمعيّة اللبنانية، وعلى الميزات، والمواصفات التي يُفْتَرَض أن يتحلّى بها لبنان كي يكون جنّة جاذبة للاستثمارات الإقليميّة، والدوليّة، فلا بدّ – ومن باب أَوْلَى – من رفع الظلم عن كاهله، وإيجاد حلّ إنساني عادل للّاجئين بدلًا من الإقفال على قضيتهم داخل مخيمات الفقر والمعاناة.
الحقيقة أنّ لبنان لم يقصّر يومًا في قرع جرس الإنذار، لا على مستوى المحافل الدوليّة، ولا على مستوى القمم والاجتماعات العربيّة، وفي النهاية فإنّ «المجموعة الدوليّة لدعم لبنان» باتت تدرك تمامًا معنى ما يؤكده رئيس الجمهوريّة، ويصرّ عليه في كل ظرف، ومناسبة: «لبنان للّبنانيين... ونقطة عالسطر».
يعرف المجتمع الدولي الدوافع والأسباب، تمامًا كما يعرف الأبعاد والخلفيات. وهو هنا بقراراته الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وبقوّاته العاملة في الجنوب تحت علم الأمم المتّحدة، وبملاحقته الدؤوبة لوضع ليرَته، ونشاطات قطاعه المصرفي؛ وهو هنا يتابع تقلّبات اقتصاد هذا البلد الذي يحمل من الأوزار «المستوردة» ما يفوق طاقته. ولأنّه يعرف، ويُلِمّ تمامًا بالأبعاد والتداعيات، يُقْدِم البلسم من خلال المؤتمرات، لكن على الرغم من مقوّمات النجاح كلّها لهذه «البروباغندا» الإعلاميّة - الدعائية ووعودها البرّاقة، يبقى الرمل على الشاطىء بعد اضمحلال الزبد، وتبقى الحقيقة الموجعة، بعد أن تَخْفُت الأضواء، وتنتهي مراسم الزفّة.
شرارات النفط
الزفّة هنا لا تقتصر على المعنيّين بالعرس، ولا حتى على المتحمّسين والمندفعين، بل على الدُّخلاء والمتدخّلين، وفي المقدّمة العدو الإسرائيلي الذي لا يتوانى عن التهديد بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، في كلّ مرّة لا يقوى فيها على تحقيق مطامعه في أرض لبنان، ومياهه، والآن في نفطه. والمشكلة هنا أنّ الدول المنخرطة في المؤتمرات الدوليّة تتصرّف بمزاجيّة واستنسابيّة، وتختار من المواضيع المدرجة على سلّم الأولويات ما يناسبها، وتتغاضى عن الأخرى الأكثر أهميّة وحيويّة؛ فهي على سبيل المثال لا الحصر معنيّة بالنفط، وبحقول النفط، وبما يحلم به لبنان من مردودات ومداخيل تمكّنه من التخلّص من دَيْنِه العام المرهق، وتساعده في بناء اقتصاد سليم، ولكنّها غير معنيّة بالمطامع والتهديدات والممارسات الإسرائيليّة، لأنّ حدود مصالحها تنتهي عندما تبدأ حدود مصالح إسرائيل.
أمّا قمّة الانحدار فتتمثّل بالخطط الخمسيّة التي تقرّرها المؤتمرات الدوليّة، وترسمها كخارطة طريق للوفاء بالتزاماتها المالية والمعنويّة، انطلاقًا من حقيقة متداولة وراء الكواليس الدبلوماسية، مفادها أنّ لبنان مقبل على الاستفادة من مردودات حقول النفط والغاز في مُهلٍ زمنية قياسيّة لا تتخطى حدود السنتين إلى الثلاث سنوات، وفي هذه الحالة يمكن للدول المانحة عندها التنصّل من التزاماتها تجاهه، بحجّة أنّ الاقتصاد اللبناني يكون قد خرج من غرفة العناية الفائقة، وتماثل إلى الشفاء، وأدرك الصحة والعافية من جديد، بحيث لا يعود بحاجة إلى مساعدات دولية، ومؤتمرات للمؤازرة.
ندعمكم ولكن...
لقد اختبر لبنان طويلًا معدن المجتمع الدولي، ويعرف تمامًا أنّ هناك من له مصلحة في مؤتمرات الدعم، ويعرف أكثر ما يمكن أن تقدّمه، لكنّ الظاهرة التي استحدثتها طريقة التعاطي كانت لافتة؛ كان مطلوبًا من لبنان أن يقدّم «إفادة حسن سلوك» إلى الدول المانحة للحصول على الدعم المطلوب. كان عليه أن يقدّم موازنة متقشّفة قبل الذهاب إلى مؤتمر «سيدر» في باريس. كان على الحكومة أن تقدّم «براءة ذمّة»، وكشفًا وافيًا حول ما عندها من خطط وأساليب واقعيّة لمحاربة الفساد، لا بل حول الآليات التي تعتمدها، وتلك التي يجب أن تعتمد.
إنّ هذا النمط من التعاطي هو استثنائي، ومع ذلك كانت هناك موافقة ضمنيّة على تقبّله، لسببين، الأوّل: إنّ محاربة الفساد هي شعار العهد، فإن تمكّن من كسب هذه المعركة الصعبة والمعقدة، يكون قد أبلى البلاء الحسن، وحقّق إنجازّا وطنيًا كبيرًا. والثاني: إنّ بضاعتنا مكشوفة تمامًا، والأُسرة الدولية تعرفنا وتعرف معدننا، لقد أهدتنا «باريس 1»، و«باريس 2»، و«باريس 3»، ولم نحسّن أوضاعنا، ونبادر إلى معالجة عيوبنا وهفواتنا ونواقصنا. فبقي اقتصادنا متعثّرًا، والدَّيْن العام يرتفع بشكل مخيف، والفساد يستشري... لذلك كانت نصيحة المجتمع الدولي، لا بل مطلبه المُلحّ بـ«ضرورة شدّ الأحزمة» قبل فوات الأوان؟!
طبّقوا اللامركزيّة الإداريّة - الإنمائيّة!
قبل فوات الأوان، قدّم لنا المجتمع الدولي من خلال المؤتمرات، أو من خارجها، مجموعة من الحوافز، والمنشّطات الاقتصادية - الإداريّة - الاجتماعيّة - الإنمائيّة. إنّه هنا بسفاراته ومخابراته، يراقب ويعاين، ويتابع مجريات الأمور، ويسهر على إنجاز الاستحقاق الانتخابي في موعده، وسط أجواء من الأمن والاستقرار يحرص في التأكيد عليها، ووفق أوسع هامش من الحريّة والديموقراطية، وحسن الاختيار. إنّه يرى من منظاره الخاص، أنّ القانون النسبي سيحدث تغييرًا في الحياة السياسيّة اللبنانية، ويؤهّل اللامركزية الإداريّة - الإنمائية أن تصبح حقيقة قائمة، وفي أسرع من المتوقّع، بعد أن ملّت الانتظار، وهي سجينة الحبر والورق! هذه نصيحته، وهذا توجّهه؟!...