- En
- Fr
- عربي
أغانٍ في البال
في آخر أيام العام 1971 وقفت فيروز على مسرح سينما الكابيتول - بيروت وصدح صوتها محاكيًا المجد في مغناة «عودة العسكر»، التي قدّمها الأخوان رحباني في «يوم الوفاء للجيش». تلك كانت أولى إطلالات فيروز من بيروت بعد بعلبك ودمشق، ومن يومها ما زالت «عودة العسكر»، تحفر في الوجدان وتتوهج ألقًا. في أيام الشدّة وما أكثرها، نستعير من فيروز «شلحات الحرير»، وفي انتظار أخبار الأبطال في الميدان يأتي صوت نصري «الله محيي عسكرنا»، وحين يطلّ أبطالنا ترتفع راياتنا على وقع «هلي عالريح» و«معافى يا عسكر لبنان...» «عودة العسكر»، كلمة، ولحنًا وصوتًا، ومشهدية، نموذج للتعبير الفني الراقي عن مواضيع البطولة والاستشهاد وما يتصل بهما من مشاعر وطنية، وهي أصلًا قدمت بمثابة تحية إلى الجيش اللبناني.
الجيش والبطولة والاستشهاد في اعمال الأخوين رحباني وفيروز
راية الوطن
في «عودة العسكر»، لاحت راية الوطن العليّة من رحم الاستشهاد في معركة اسبتسل فيها عسكرٌ «قلال... بس رجال»، وأشرق نهاره من «نصرٍ قاطع»... تجري الحكاية في القرية. وهي مكان لا يتمّ وصفه مباشرة، لكن الحوار الغنائي يشير إليه بصورة جميلة: «هدايا مغازلنا، شلحات الحرير، مواقد نارنا، حرير من الزوق، مشالح عكارية، خناجر جزينيّة وخوابي زحلاوية»، ما يجعل الحكاية مرتبطة بحقبة معينة تمنح المشهد خصوصيته. لكنها حقبة مفتوحة على أفق وطني وإنساني، لتكون أحداثها قابلة لأن تجري في أي زمان ومكان ولتؤكد بالتالي، بأسلوب جميل وغير مباشر، أن الماضي هو الحاضر.
شغلت الحرية اهتمام الأخوين رحباني، وشكّلت محورًا أساسيًا في معظم أعمالهما. في «عودة العسكر» لم يضعا القضية في إطار فلسفي، بل عملا على استنهاض الشعور الوطني من خلال وصف معركة تشهد بطولة جنود «إلهن الملاعب وقهر المصاعب»، ويطلقان نفسًا ثوريًا يتوجّه إلى المشاهدين بسحرٍ ومرونة من دون الحاجة إلى اعتماد المباشرة الفجّة: «وصار السيف يقارع سيف، ويسكر مجد ويسكرنا».
وصف فيه من الكثافة الشعرية والغنائية العذبة ما يجعله الأنسب لاحتضان تلك الحكاية، بينما تقف القوى المعتدية في الطرف الآخر غير الظاهر، الذي يأخذ شكله بالكلمة والضمير الغائب: «عالإعدا كترنا».
سالم الرمز
«عودة العسكر» نص يخلو من الحبكة، ويوجّه بغنائية ساحرة تحية إلى الجيش اللبناني. وقد أدّت الأسئلة ذات الإيقاع الحزين: «سالم... وينوّي سالم؟؟» «مش راجع؟؟»... «عاطول»؟ دورها الدرامي في رسم الإطار العام للحكاية واستحضار سالم «الغائب».
كما أن الإجابات على تلك الأسئلة: «لا مش راجع» «إيه..عاطول» «ومغطّى بعلم لبنان»... دفعت باللوحة قدمًا وطورتها، وبكلمات بسيطة تمكّنت من صياغة الاستشهاد حقيقة تهدر كالشلال، وتحوّل سالم الشهيد إلى رمز لكل جندي بذل نفسه في سبيل الوطن.
يهيمن التفاؤل على ختام العرض بانسجام مع معطيات البنية الفنيّة، ويرسم ملامح الأمل: «وتتغاوى أرزة لبنان فوق جبال الحرية»... «برجك عيد بالبيارق طاير»... وينتهي النشيد بالتأكيد أن الكنز الأكبر هو الحرية التي يصونها جيش لبنان، الجيش البطل الذي صنع ويصنع مجد لبنان وبفضله ستبقى «رايته عالية تهلّ عالريح».
كنز للأجيال
هذه اللوحة الغنائية المحمّلة بطاقة شعرية مكثّفة، وبموسيقى لا تقلّ جمالًا، تمكّنت بمضمونها الوطني العالي، من ضخ مادة وجدانية ساهمت في تأسيس علاقة وطيدة بين المواطنين وجيشهم، وفي ترسيخ شعور الاعتزاز بالانتماء إلى لبنان، وإلى أرزته «الخضرا العتيقة». ولقد أبدع الأخوان رحباني في إبراز هذه المضامين التي صاغها صوت فيروز جواهر يزداد بريقها كلما مرت السنوات، وتتوارثها الأجيال كنزًا من الجمال والرقي.
هوامش
• «عودة العسكر»، لوحة غنائية قدّمها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني وفيروز كتحية للجيش اللبناني، في «يوم الوفاء»، وذلك بناء على طلب من لجنة مهرجانات بعلبك.
• تمّ عرض هذه اللوحة للمرة الأولى على مسرح سينما الكابيتول في بيروت في 29/12/1961، ثم أعيد تصويرها في تلفزيون لبنان والمشرق.
شارك في «عودة العسكر» نصري شمس الدين ووليم حسواني وهدى حدّاد والفرقة الشعبية اللبنانية. وبعد عرضها أقامت قيادة الجيش حفل تكريم لفريق العمل في النادي العسكري.