- En
- Fr
- عربي
إدارة الثروة البشرية كمنطلق لكبح هجرة الأدمغة والكفاءات في لبنان
تتصدر ظاهرة هجرة الكفاءات و الخبرات لائحة التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الدول النامية. وتكتسب أهمية قصوى في لبنان نظراً إلى تزايد عدد المهاجرين وخصوصًا أصحاب الكفاءات العلمية والتقنية لما لها من آثار سلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتماسك النسيج الاجتماعي اللبناني.
تتناول الدراسة الحالية مسألة تحديد هجرة الكفاءات والخبرات، أو ما اصطلح على تسميته "هجرة الأدمغة" ووضعها في إطارها العلمي والعالمي، ومقاربة الموضوع من النواحي الإيجابية والإفرازات السلبية على الفرد والعائلة والمجتمع والوطن .
وتخلص إلى اقتراح سياسات يمكنها أن تسهم في تخفيض نسبة هجرة الأدمغة خصوصًا الهجرة الدائمة من خلال اعتماد إستراتيجية إدارة الثروة البشرية في لبنان، والإفادة من أفضل التطبيقات العملية الناجحة في الدول التي سبقتنا في اعتماد هذه الاستراتيجية.
تحديد ماهية هجرة الأدمغة
تعتبر الكفاءات والخبرات البشرية اليوم ثروة توازي أهمية الثروات الطبيعية، إن لم تكن أهمها، خصوصًا في عالم يرتكز على اقتصاد المعلومات كما هو عالمنا اليوم، عالم الكوكبة. لذلك فان هجرة هذه الكفاءات والخبرات البشرية تعتبر "نزف أدمغة" أو "هجرة أدمغة" للبلد المنشأ و"كسب أدمغة" للبلد المستقطب. ولقد أثبتت هجرة الأدمغة أنها مسهّلة للتنمية والمنافسة في الدول المستقطبة، وعائق للتنمية المستدامة في دول المنشأ. وعليه، فإنه إذا ما استمرت هذه الهجرة على وتيرتها التصاعدية، فإن دول المنشأ التي هي في معظمها دول نامية، لن تستطيع بلوغ أهدافها في تحقيق التنمية المستدامة أو المنافسة في الأسواق العالمية.
وفقاً لإبراهيم سركيسي فإن الهجرة العالمية هي حركة دينامية تنطلق من بلد المنشأ الذي يسوده مناخ غير آمن وتصبُّ في وجهة أقّل انعدامًا للأمن أو أخرى تؤمّن استقرارًا نسبيّاّ[2]. ومن بين هذه الهجرات هناك هجرة الأدمغة، وهجرة أصحاب الكفاءات العالية، والمتوسطة والمتدنية. لكن ما يهمُّنا في هذه الدراسة هو هجرة الأدمغة والكفاءات العالية التي حُدِّدت على أنها "تحويل عالمي للموارد بشكل رأسمال بشري وتطال إجمالا هجرة ذوي الكفاءات العالية من المتعلِّمين من الدول النامية إلى الدول المتقدمة" ويشمل هؤلاء إجمالاً، وليس حصرًا، "المهندسين، والأطباء والعلماء وغيرهم من أصحاب الكفاءات العالية والشهادات الجامعية"[3].
وفي مذكرة للأمانة العامة للاتحاد البرلماني العربي الصادرة في كانون الأول العام 2001 ورد ما مضمونه أن الدول العربية تساهم في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن 50% من الأطباء و23 % من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرّجة يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأوروبا، وأن ثمة 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج ولا يعودون إلى بلدانهم.[4]
هل هناك هجرة أدمغة في لبنان؟
تفتقر أدبيات الهجرة ككل، وهجرة الأدمغة في لبنان بخاصة، إلى بحوث إمبريقية (تجريبية وميدانية) تقوّم حجم هذه الهجرة خصوصًا هجرة الأدمغة منها وتكلفتها على المجتمع اللبناني لجهة مواطن الضعف والقوة وتأثيرها على الصعيد الخاص، إذ تقتصر البحوث الحالية على دراسة حالة في قطاع معين وبشكل محدود معتمدة على منهجية التوصيف المبنية على شواهد قصصية. ويعتري الدراسات الحالية قصور منهجي يتمثل في النقص الحاد في الإحصاءات المنشورة كما في التقديرات المعلنة حول عدد المهاجرين اللبنانيين من أصحاب الأدمغة والكفاءات العالية وتكوينهم. جلّ ما نعرفه عن حجم الهجرة ككل هو أنها وصلت إلى 900.000 مهاجر بين العامين 1975 و2000 بحسب دراستين منشورتين، الأولى للدكتور أنيس أبى فرح من الجامعة اللبنانية والتي نشرها العام 2001[5]، والثانية للسيدة شوهيغ كسبريان من جامعة القديس يوسف والتي نشرت العام 2003.[6]
أما في موضوع هجرة الأدمغة فنحن نعتمد على ما وَصَلنا من تقديرات ودراسات وإحصاءات في بلدان الاستقطاب او بلدان المهجر. ونورد هنا بعض الإحصاءات التي جمعناها من عدة مراجع علمية اعتمدت في مجملها على معلومات وإحصاءات منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD). ففي دراسة[7] للدكتور فرديريك دوكييه من جامعة لوفان الكاثوليكية في بروكسل – بلجيكا، والتي نشرها في آذار/مارس 2005، حدَّد عدد اللبنانيين المولودين في لبنان والعاملين في كل من الدول الأميركية (أميركا، كندا والمكسيك)، والدول الأوروبية، ودول آسيا وأوقيانيا، بحسب كفاءاتهم كالآتي:
عدد اللبنانيين المولودين في لبنان بحسب دول الاستقطاب وبحسب كفاءاتهم العلمية العام 1990 |
||||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
الهجرة إلى دول أميركا وكندا والمكسيك |
الهجرة إلى دول أوروبا |
الهجرة إلى دول آسيا وأوقيانيا |
||||||
كفاءة عالية |
كفاءة متوسطة |
كفاءة منخفضة |
كفاءة عالية |
كفاءة متوسطة |
كفاءة منخفضة |
كفاءة عالية |
كفاءة متوسطة |
كفاءة منخفضة |
54753 |
26823 |
26422 |
41651 |
26768 |
81741 |
17089 |
13123 |
22510 |
المجموع العام لعام 1990: 310880
المرجع: F. Docquier, International Migration by Educational Attainment (1990-2000), March 2005, Table A.1-1. Stock of Emigrants, Domestic Labor Force, Selection Rates and Emigration Rates by Educational Attainment in 1990.
عدد اللبنانيين المولودين في لبنان بحسب دول الاستقطاب وبحسب كفاءاتهم العلمية عام 2000 |
||||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
الهجرة إلى دول أميركا، كندا والمكسيك |
الهجرة إلى دول أوروبا |
الهجرة إلى دول آسيا وأوقيانيا |
||||||
كفاءة عالية |
كفاءة متوسطة |
كفاءة منخفضة |
كفاءة عالية |
كفاءة متوسطة |
كفاءة منخفضة |
كفاءة عالية |
كفاءة متوسطة |
كفاءة منخفضة |
85946 |
35836 |
29260 |
67300 |
41524 |
77664 |
17703 |
20075 |
26080 |
المجموع العام لعام 2000: 401388
المرجع: F. Docquier, International Migration by Educational Attainment (1990-2000), March 2005, Table A.1-2. Stock of Emigrants, Domestic Labor Force, Selection Rates and Emigration Rates by Educational Attainment in 1990.
فإذا ما تمعنّا في هذين الجدولين يتبيّن لنا أن عدد اللبنانيين المولودين في لبنان والعاملين في كل من هذه الدول، والذين يتوزَّعون جميع الكفاءات، كان العام 1990، 310.880 شخصاً، واصبح العام 2000، أي بعد عشر سنوات، 401.388 شخصاً، أي بزيادة 22.5%، وأن عدد العاملين في هذه الدول من أصحاب الكفاءات العالية بلغ 113.493 شخصاً العام 1990، و170.949 شخصاً العام 2000، أي بعد عشر سنوات، ما يظهر ارتفاعًا نسبته 34%، أي ما يعني 57456 شخصاً امتصّتهم الهجرة خلال هذه المدة، وجلّهم من أصحاب الكفاءات.
وفي دراسة فيتزهيو مولن[8] تبّين أن عدد المتخرِّجين اللبنانيين من كليات الطب الذين دخلوا ميدان سوق العمل الطبي في الولايات المتحدة بلغ 2.556 خريجاً، وفي كندا 161 خريجاً وذلك للعام 2004. وبذلك يكون لبنان قد احتل المرتبة الثانية بالنسبة إلى عدد سكانه من حيث عدد الأطباء المتخرجين العاملين في الولايات المتحدة، والمرتبة 21 من بين الدول الـ 25 الأولى في هذه الفئة. كما احتل المرتبة التاسعة عشرة من بين الدول العشرين الأولى لهذه الفئة في كندا[9]. وبيّنت الدراسة أن مجموع الأطباء المتخرجين في لبنان العام 2004 والعاملين في الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا وبريطانيا هو 2.749 طبيبا لبنانيا من أصل 11.505 من عدد الأطباء اللبنانيين العاملين في لبنان، فيكون لعامل الهجرة في القطاع الطبي ما نسبته 24%[10].
ويشير الطبيب والأستاذ الجامعي إيلي عقل من كلية الطب في جامعة بافالو في نيويورك إلى أن 40% من مجمل عدد الأطباء اللبنانيين المتخرِّجين من كليات الطب في لبنان في الـسنوات الخمس والعشرين الماضية يعملون في القطاع الصحي في الولايات المتحدة. ويشير أيضًا إلى أنه ومنذ العام 1978 يزيد عدد المتخرجين اللبنانيين في القطاع الطبي من كليات الطب في لبنان والموجودين في الولايات المتحدة بمعدل 71 متخرجًا في كل سنة[11]. وبحسب شاغلار أوزدن، وهو باحث في البنك الدولي، فان حوالى 39 % من المهاجرين اللبنانيين للعام 2000 هم من حاملي الشهادات الجامعية، مقارنة مع 44% للعام 1990[12].
وتشير دراسة الدكتور أنيس أبى فرح التي نشرت العام 2001 إلى أن 22.9% من الذين هاجروا بين العامين 1975 و2001 هم من حملة الشهادات العالية، مقابل 22.6% من عدد المقيمين من حاملي هذه الشهادات[13].
وفي الدراسة الأخيرة التي نفَّذها مركز دراسات الانتشار اللبناني في جامعة سيدة اللويزة بين منتصف شهر أيلول/سبتمبر ومنتصف شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 2006 حول إرادة الهجرة لدى الشباب اللبناني وتأثير حرب تموز/يوليو 2006 على القرار بالهجرة، تبّين أن من بين 444 شخصًا من المستطلعين الذين ملأوا الاستمارة بكاملها، أن 60.5% أو ما يعادل ثلثي اللبنانيين المقيمين المستطلعين أبدوا رغبتهم في المغادرة، وأن 68.4% منهم أكدواّ أن حرب تموز/يوليو قد أثّرت فيهم وساعدتهم على اتخاذ قرارهم بالرحيل. كما أفضى التقرير إلى أن 62.5% من الذين تراوح أعمارهم بين 21 و30 سنة، و56.5% من الذين تراوح أعمارهم بين 31 و40 سنة يريدون الهجرة، وأنَّ من بين أولئك الذين يريدون الهجرة، 56.1% هم من حملة الإجازات، و 24.2% من حملة الماجستير، و2.2% من حملة الدكتوراه، أي أن الذين يودُّون الهجرة يدخلون في خانة هجرة الأدمغة.
وردًا على اتصالات هاتفية أجريناها لاستطلاع نقابات أصحاب الكفاءات في قطاع المعلوماتية والهندسة والصحافة تبيّن لنا الآتي: أن نقابة المهندسين صرّحت بأن عدد المهندسين المسجَّلين لديها والذين يدفعون اشتراكاتهم في النقابة وصرّحوا بأنهم يعملون خارج لبنان بلغ 3820 مهندسًا؛ إلا أن جهات نقابية أكّدت أن هذا الرقم لا يعكس حقيقة الواقع حيث أن المهندسين العاملين في القطاع والذين هاجروا قد فاقت نسبتهم 15% من مجمل عدد المهندسين في لبنان.
أما غبريال الديك، وهو أستاذ في معهد Institut de Gestion d’Entreprise في جامعة القديس يوسف ورئيس جمعية Professional Computer Association، التي تأسست العام 1996 والتي تضّم 80% من المؤسسات في قطاع المعلوماتية، فقد أكّد أنَّ في هذا الأخير هجرة بنسبة 70% من الكفاءات، معظمها إلى دول الخليج و أوروبا وأميركا الشمالية، وأسبابها عدم توافر الوظائف والرواتب الملائمة للمستوى العلمي والخبراتي للعاملين في القطاع. وشرح أن النسبة العالية لطلب هذه الكفاءات خارج لبنان وتوافر رواتب ملائمة تًُخضِع القطاع في لبنان لمنافسة عالمية تحفّز الكفاءات على الهجرة. ففرنسا مثلا بحاجة إلى 67.000 عامل كل سنة، لا يوفّرها المجتمع الفرنسي، فتسعى إلى جذب كفاءات من دول أخرى هي في أكثرها من الدول النامية. وأكّد الديك أن الشركات الأجنبية العاملة في المعلوماتية في لبنان تستطيع توظيف خيرة المتخصصين اللبنانيين وإبقائهم في لبنان لأنها تدفع لهم رواتب موازية لمستواهم العلمي والخبراتي، بينما يعاني معظم الشركات اللبنانية عدم القدرة على المحافظة على قواها العاملة. وختم الديك بأن قطاع المعلوماتية ينمو بمعدّل 12،5% كل سنة في لبنان ولا تنمو معه نسبة المتخرجين فيه بسبب عدم ملاءمة التوجيه والإرشاد المهني في مؤسسات التعليم العالي مع متطلبات سوق العمل.
أما في قطاع الصحافة والإعلام فقد أوضح نوفل ضو، عضو نقابة أصحاب الصحف، أنه ليس هناك من نقابة للصحافيين بل هناك نقابتان واحدة للمحررين وأخرى لأصحاب الصحف، ما يدّل على عدم وجود مؤسسة ترعى شؤون الصحافيين والإعلاميين وتستطيع أن تفيد عن ما يجري في هذه القطاع الحيّ الذي يصدّر الكثير من أبنائه إلى دول مثل أوروبا وأميركا عامة والخليج بخاصة. وأضاف ضو بأنه وعلى الرغم من عدم توافر إحصاءات رسمية، إلا أنه وبناء على خبرته يرى أن القطاع يمّد المدينة الإعلامية في دُبي، ومحطات تلفزة أخرى مثل "العربية" و"الحرةّ"، وإذاعات مثل "مونتي كارلو" وغيرها، وصحفًا مثل الصحف الخليجية عموماً، بأعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين الأكفياء.
يمكننا تلخيص كل ما تقدّم بما أورده "بين" و"دوكييه" و"رابوبورت" في دراسة لهم نشرت العام 2006 وجاء فيها أن لبنان هو من بين الدول التي يُلحِق بها نزف الأدمغة أو هجرتها ضررا" كبيرا" مقارنة مع الأردن مثلا" الذي تؤثّر هجرة الأدمغة عليه إيجابا". وقد تسببت بإنقاص اليد العاملة الوطنية في لبنان بحوالى 104570 شخصاً، بينما تسبَّبت في الأردن بإنقاص مماثل قدره 28054 شخصاً. وكان وقع هذه الهجرة على القوى العاملة الكفوءة في لبنان هو (83527-) بينما هو في الأردن(7439+) ووقع هذه الهجرة على نسبة الكفوئين في لبنان هي 3.8- % وفي الأردن 0.7%.[14]
إستنادا إلى ذلك، فإن هجرة الأدمغة في لبنان حالياً تدفعها أسباب محلّية وتجذبها حوافز إقليمية ودولية.
أبرز أسباب هجرة الأدمغة والكفاءات من لبنان؟
ليس هناك من سبب واحد لهجرة الأدمغة من لبنان، بل أن هذه الهجرة هي نتيجة تفاعل عدة عناصر ومسببات وعلى رأسها الأوضاع الأمنية والسياسية خصوصًا تلك التي لحقت بلبنان في السنوات الـسبع وثلاثين المنصرمة، والتي انعكست بدورها على الاقتصاد والاستثمار والتنمية المستدامة، وعلى خلق فرص عمل جديدة تتماشى مع التحصيل العلمي الحديث وتواكب التطور التكنولوجي العالمي. كذلك هناك أسباب مهنية مبنيّة في مجملها على عدم توافر قطاعات عمل لهذه الكفاءات العلمية، أو عدم توافر بيئة اجتماعية مدركة Socio-Cognitive Society يتفاعل فيها الفرد مع نظرائه ومع مجتمع المعرفة في الحقل نفسه، كذلك عدم وجود مراكز أبحاث لإشباع توق الكفؤ إلى الخلق والإبداع والمنافسة.إن أهم دوافع الهجرة في لبنان خصوصاً منذ بداية الحرب العام 1975 وحتى يومنا، تكمن في حالة غياب الأمن الإنساني الذي يشمل عدة مؤشرات منها:
- الأول يتمثَّل في اللا-أمن الاقتصادي، ومقدار التغطية الرعائية للدولة، والمديونية العامة.
- الثاني هو في اللا-أمن السياسي الذي يعبِّر عن ذاته من خلال خرق الحقوق السياسية، وارتكاب الجرائم السياسية والعمليات الإرهابية، والفساد في الدولة ومؤسساتها، وانعدام الآليات الديمقراطية أو توقفها، وغيرها. وهناك أيضًا اللا-أمن الاجتماعي الذي يقاس من خلال الأمن الغذائي والصحي والبيئي، واللا-أمن الناتج عن النزاعات الإثنية أو الدينية إضافة إلى اللا-أمن الشخصي والمعنوي.[15] إن كل مصادر اللا-أمن هذه تتداخل فينتج عنها ما يسبب الهجرة.
وبرأينا فإن أهم دوافع الهجرة الحالية خصوصًا الدائمة منها تكمن في اللا-أمن السياسي الذي يؤثر تأثيرًا مباشرًا على الحركة الاقتصادية والاستثمار وتفعيل السوق وإنتاج الوظائف.
- الأسباب الأمنية والسياسية
وهذه في نظرنا أم أسباب الهجرة اللبنانية القائمة. فعدم الاستقرار الذي عاناه ويعانيه لبنان منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا - وقد مسَّ وما يزال، ليس أرزاق الناس وأرواحهم وحسب، بل حتى ثقتهم باستعادة لبنان سلامته ونشاطه ودوره - هو في جوهر الأسباب الأمنية والسياسية الدافعة. وتتلخَّص التهديدات الناتجة عن هذه الأخيرة بعدم الاستقرار السياسي الذي يعيق تطور السياسات، والتي يجب بدورها أن تواكب تطورات العصر في سن قوانين وأنظمة وتشريعات محفِّزة. هذا فضلاً عن انعدام الحقوق، وشيوع الفساد وانتشار الأسلحة والاغتيالات والحروب المستدامة. والإرهاب. وهناك أسباب أخرى أيضاً مثل مفعول "الواسطة" – أي التدخل غير المشروع لصالح الشخص على حساب الكفاءة - والبيروقراطية المفرطة في إنجاز المعاملات الرسمية، فضلاً عن "المحسوبيات" والرشوة (البرطيل) وما شابه. كذلك استحالة الوصول إلى مراكز المسؤولية أو على الأقل إلى مراكز تتناسب مع المستوى العلمي والخبراتي الذي بلغه الفرد يسبب الشعور بالإحباط واليأس من الأوضاع عموماً.
- الأسباب الاقتصادية
هذه في مجملها ذات مصدر سياسي: عدم الاستقرار السياسي والأمني، وعدم التوافق بين الفرقاء في لبنان، وعدم تمكن الدولة من إصلاح الأنظمة، وعدم سنّ القوانين التي تساهم في تحفيز الاستثمار والمستثمرين في لبنان، وعدم خلق فرص عمل لاستيعاب الكفاءات واليد العاملة. يضاف إلى ذلك التفاوت بين طبقات المجتمع، وازدياد الفقر والبطالة والدين العام، وعدم وجود سياسة رواتب تتوافق مع درجة الاختصاص والخبرة، وتضخم نفقات الحياة المعيشية. وهذه كلها تساعد في دفع عجلة الهجرة.
- الأسباب الاجتماعية
منها الشعور بعدم الانتماء إلى المجتمع الذي تتآكله الآفات الاجتماعية والأخلاقية، من "الواسطة" إلى الرشوة، والأساليب التقليدية وغير الحديثة في التعامل، فضلاً عن عدم تمكن الفرد من الحصول على حقوقه دائماً لعدم توافر ظروف العدالة والشفافية باستمرار.
- الأسباب المهنية
تتمثل هي أيضا في الأمور الآتية: عدم إمكان تطوير الكفاءات الذاتية عبر متابعة التعلم في أثناء الوظيفة وعبر التدريبات، عدم توافر الدرجة المطلوبة من الحرية الفكرية لتطوير الأفكار الجديدة، عدم التطابق بين درجات التعلّم والتطور المهني وعروض العمل والوظائف المتاحة. هذا فضلاً عن غياب البيئة القابلةEnabling Environment للبحث العلمي والتعاون العلمي التي توّفر مقوِّمات الإنتاج العلمي والاستقرار النفسي والمهني، ثم انعدام التوازن التعليمي وفقدان الارتباط بين التعليم وسوق العمل وخطط التنمية.
ما هي الأسباب المستقطبة أو الدافعة إلى الهجرة؟
إن الأسباب التي تدفع اللبناني إلى الهجرة تبدأ من عدم توافر فرص العمل في الوطن لتصل إلى سوء الظروف الأمنية والسياسية وفقدان عوامل الاستقرار بشكل عام، فضلاً عن عدم تطوير بعض القوانين والأنظمة والتشريعات، وقلّة الاعتماد على الكفاءة في التوظيف، وشيوع الفساد والرشوة. وهذا كله يعيق سهولة الوصول إلى مراكز المسؤولية، وإلى مراكز تتناسب مع المستوى العلمي والخبراتي الذي يحمله الفرد.
الأسباب الاقتصادية تؤدي أيضاً دوراً هاماً، من عدم توافر أنظمة وقوانين ترعى الاستثمار وتحفّزه، إلى جانب انخفاض التفاوت بين طبقات المجتمع واتساع دائرة الفقر، وارتفاع معدّل البطالة. زد على ذلك عدم توافر سياسة رواتب تتوافق مع درجة الاختصاص والخبرة.
يقابل الأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية، أسباب أخرى اجتماعية مثل عدم الشعور بالانتماء إلى مجتمع فاعل، وندرة الأنظمة الاجتماعية والقضائية التي تحمي المواطن، وغياب فرص المنافسة الإيجابية، وكذلك غياب سياسة المكافأة والترقي في المجتمع بحسب الجدارة والنشاط، وعدم احترام الحقوق والواجبات، وغياب الشفافية والضمانات الاجتماعية والصحية، وعدم وجود سياسة دعم في حال البطالة، ولا ضمان شيخوخة.
أما الأسباب المهنية الجاذبة فهي في مجملها فرص عمل متطابقة مع الاختصاص وبرواتب عالية، والريادة العلمية، والحرية الفكرية، وحماية الحقوق في الاختراع والنشر وما شابه، وتوفّر تكنولوجيا حديثة وثروات مادية ضخمة تمكِّن الفرد من إجراء الأبحاث والتطبيقات، وفرص البحث العلمي، وإمكان التطور المهني على الصعيد الشخصي، وإمكان التدرج في الوظائف، وتواصل مع بيئة اجتماعية مدركة مبنية على المعرفة والخبرة اليومية، وتأقلم الفرد في المعرفة ما يساعد على الإبداع والخلق وتحسين الإنتاج.
تأثير الهجرة على لبنان
لا يمكننا قياس التأثير الكمّي لهجرة الأدمغة على لبنان، كما لا يمكننا قياس مدى مشاركة المهندسين أو الأطباء أو العلماء في وطنهم. إلا أنه بمقدورنا أن نقيس نمو الاقتصاد في لبنان في العقود السابقة ودور الأدمغة في هذا النمو. ومن مؤشرات هذا الأخير الاستثمار الأجنبي المباشر، سياسة الحكومة الضرائبية، دعم بعض القطاعات، والاستثمار في البنى التحتية إلى ما هنالك. كما أن معرفتنا بمقدار عجز الميزانية، والمديونية العامة، ونسبة التضخم، والنمو في قطاعي الصناعة والزراعة، ونسبة الدخل الفردي ...تمكِّننا من تحديد حالة الاقتصاد ومدى قوته أو ضعفه، كذلك تساعدنا معرفة مستوى التعليم ونسبة الأمية ونمو قطاع الخدمات والبطالة والفساد إلى ما هنالك، وحتى معرفة ديناميكية سوق العمل. فإذا ما طبّقنا هذه المعايير نجد أن النمو المتعسّر في لبنان على امتداد الظروف الصعبة التي مرّ بها منذ العام 1975، والمتواصل حتى الان، لم يكن ليوقف هجرة الأدمغة بل ليدفع أصحاب الكفاءات إلى البحث عن ملاذ لتثميرها.
لكن هذا ليس كل شيء. فللهجرة تأثيرات إيجابية أيضاً إضافة إلى تلك السلبية على صعيد الوطن والمجتمع والعائلة، ونراها كما يأتي:
- التأثيرات الإيجابية
- أحدث الإحصاءات في التحويلات المالية إلى لبنان
إن إسهامات المهاجرين عامة هي نتيجة تفاعل الرأسمال البشري المهاجر مع ما تقدمه الدول المستقطبة من بيئة قابلة ودعم ومختبرات وإمكانات وتقنيات، ما يفسح المجال أمام المهاجرين لتحقيق اكتشافات علمية، أو المساهمة في تطوير أساليب حديثة في إدارة المؤسسات. وهي تنعكس إيجابًا على لبنان إن مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. فمن بين الانعكاسات الإيجابية المباشرة تحسين سمعة العامل اللبناني، وزيادة الطلب عليه، والزيادة في التحويلات المالية من المهاجرين إلى أهلهم في لبنان. أما التأثيرات غير المباشرة فنشهدها في زيادة نسبة الرأسمال البشري اللبناني بعد عودة المهاجر مع ما يحمله من رأسمال مالي وخبرات وتقنيات وعلاقات وتواصل، كما نلمسها في تحويل المهاجر العائد للمعلومات والمكتسبات الفكرية والاجتماعية إلى المواطنين اللبنانيين عبر التحادث والتعامل، ومنها مثلا المعلومات المتعلّقة بأمور الصحة والطب والبيئة.
أما أهم التأثيرات المباشرة فهي التحويلات المالية التي يورّدها المهاجرون إلى أهلهم في الوطن الأم وقد قدّرت بحوالى 492,4 مليون دولار أميركي العام 2005، وهي لا تشمل الأموال المنقولة من قبل المهاجرين أو ذويهم أو أصدقائهم. وتساهم هذه التحويلات بنسبة 22,2% من الناتج المحلي الإجمالي بحسب منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي(OECD) . ويحتل لبنان بعد الهندوراس المرتبة الثانية بين الدول في هذا المجال، كما يحتل المرتبة الأولى بين الدول في كمية التحويلات المالية بحسب السكان أي بمعّدل 1,377 دولار للفرد العام 2005[16]. وتبرز أهمية هذه التحويلات في الظروف اللبنانية القائمة من خلال النسب الآتية للتحويلات الإجمالية للعام 2005 ، والتي تساوي 20% من الواردات (Imports of Goods and Services) و301,41% من الاستثمار الأجنبي المباشر ((Foreign Direct Investment or FDI[17].
التحويلات المالية الرسمية للبنانيين (ملايين الدولارات الأميركية) |
|||||
---|---|---|---|---|---|
2000 |
2001 |
2002 |
2003 |
2004 |
2005 |
1،582 |
2،307 |
3،111 |
4،672 |
5،592 |
4،924 |
المرجع: Migration and Remittances Factbook, compiled by Dilip Ratha and Zhimei Xu, Migration and Remittances Team, Development Prospects Group, World Bank, [http://siteresources.worldbank.org/ INTPROSPECTS/Resources/334934-1181678 518183/Lebanon.pdf]
نلاحظ من هذا الجدول ارتفاع كميّة التحويلات المالية العام 2005 إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه العام 2000، ما يزيدنا يقيناً بان هذا الارتفاع هو في مجمله نتيجة للارتفاع في أعداد المهاجرين.
وعلى الرغم من أن التحويلات المالية الرسمية عالية بالنسبة إلى عدد المهاجرين اللبنانيين، إلا أنه يجب معرفة ثلاث نقاط مهمة في مسألة استمرارية التحويلات المالية على المستوى نفسه أو ارتفاعها. النقطة الأولى، هي في تبيان تغيّر التحويلات المالية للمهاجرين من حيث الكميّة وتواترها واستعمالها في البلد الأم.
كما أننا نلاحظ أن التحويلات تمرّ بثلاث مراحل[18]:
- مرحلة الوصول والتي تستمر لمدة سنة أو سنتين، ويسعى المهاجر خلالها لتركيز وضعه في المهجر على الرغم من إرساله بعض التحويلات المالية، إلا أن هذه التحويلات تكون في معظم الأحيان قليلة من حيث الكميّة والتواتر.
- مرحلة بداية الاستقرار، بين السنة الثانية والخامسة للوصول، والتي يكون فيها راتب المهاجر قد ارتفع، هي المرحلة التي يرسل فيها تحويلات مالية أكبر كميّة وأكثر تواتراً.
- مرحلة الترسّخ، وفيها يأخذ المهاجر في بناء موجوداته في المهجر، وتتمثَّل في شرائه منزلاً أو ما شابه. إلا أنه وعلى الرغم من استمرار إرساله التحويلات المالية، فان مبالغها تنخفض عمّا كان يرسله في المرحلة المتوسطة لهجرته.
ويختلف سلوك المهاجر الأول بالنسبة إلى التحويلات المالية عن الأجيال التالية. ولقد أثبتت الدراسات أن التحويلات المالية تتراجع بشكل ملحوظ مع الجيل الثاني[19]، وتنقطع نهائياً مع الجيل الثالث للمهاجرين[20]. وهذا يعني أن التحويلات المالية ليست دائمة، وأنه إذا ما أردنا أن نبقيها على مستواها أو أن نزيد من نسبتها فعلى الهجرة ان تستمر(Replacement of Migration) وأن يرتفع عدد طالبيها.
وهنا نصل إلى النقطة الثالثة والمهمة والتي نختصرها بسؤال: هل أن هذه التحويلات المالية تفوق قيمتها قيمة الاستثمارات التي استثمرها الوطن والمجتمع والعائلة في أصحاب الأدمغة الذين هاجروا؟ فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تكلفة تربية كل واحد من أصحاب الأدمغة هؤلاء وتعليمه، الذي افترض الدكتور أنيس أبي فرح قدرها مائة ألف دولار (100 ألف دولار) تضاف إليها الخسارة الاجتماعية الديموغرافية الحاصلة بفعل هجرة الشخص، فيكون الخاسر الكبير هو الوطن، ولا سيّما أن لبنان بلد تهاجر إليه اليد العاملة العربية والآسيوية والأفريقية وتحوّل من رواتبها إلى بلدانها تحويلات مالية تتقارب من حيث الكمّ مع تلك التي يرسلها المهاجرون اللبنانيون إلى ذويهم. فالتحويلات المالية الصافية للبنانيين لم تزد عن 691 مليون دولار العام 2005 مثلاً، بعد حسم التحويلات الصادرة من قبل العمالة الأجنبية في لبنان والتي قدرت ب4,233 مليون دولار من التحويلات الواردة المقدّرة بـ 4,924 مليون دولار[21].
وعلى الرغم من أن هذه التحويلات لا تثمّر في أعمال أو مشاريع إنمائية أو استثماريةً لكي تخلق فرص عمل وتؤدي إلى تطور الاقتصاد، فان الجزء الأكبر منها ينفق لتأمين ظروف معيشية أفضل لذوي المغتربين، وفي تأمين الدراسة والطبابة. كما ان جزءًا منها يوضع في حسابات التوفير وآخر يوجّه إلى قطاع العقارات، فتدوّر هذه التحويلات الحركة الاقتصادية في القطاع الاستهلاكي.
- التحويلات البشرية
ليس كل ما يحوّله المهاجر هو المال فحسب، فهناك تحويلات بشرية ينقلها المهاجر إلى ذويه وأقاربه وأصدقائه، أو يجلبها معه عند عودته وتشمل المهارات والإمكانات الشخصية والخبرات واللغات والتقدم في طرق التفكير.
- التحويلات الاجتماعية
تشمل هذه التحويلات القيم والهوية وقواعد السلوك والتصرف والثقة وطرق التواصل بين الفرد والآخرين، وبين الفرد والمجتمع، إلى جانب احترام القوانين، واحترام البيئة، والتقدم في معرفة الأشخاص وفي الاتصالات والمعارف. ويمكن الإشارة هنا إلى الدور الذي يضطلع به المهاجرون في قطاع السياحة، وفي تفعيل تجارة السلع المحلية، أو السلع ذات الخصوصية اللبنانية مثل الحلوى والمأكولات والنبيذ، إلى جانب مساندة ما يعتقدونه مناسبًا للبنان سياسيا بتفعيل دور اللوبي في عواصم القرار وفي تأمين المساعدات والإغاثة في أثناء الأزمات والمصائب.
2- التأثيرات السلبية
أما الآثار السلبية لهجرة الأدمغة فمنها تلك التي تؤدي إلى توسيع الهوة بين البلدان المتقدمة والنامية، كما هو الوضع في لبنان مثلاً، حيث أن هجرة الأدمغة والكفاءات تعطي الدول المتقدمة فوائد كبيرة ذات مردود اقتصادي مباشر، مقابل خسارة صافية للدول النامية التي هاجر منها أصحاب الخبرات والكفاءات، خصوصا في ميادين التقنيات والاختراعات والتطور الطبي والكتابة... (وأكبر دليل هو ما آل إليه د. ميشال عبيد الذي اكتشف الجينة التي تساعد نظام المناعة في جسم الإنسان على محاربة مرض السرطان). وعلى الرغم من أن لهذا الاكتشاف فائدة للبشرية إلا انه سيساعد الدكتور عبيد في حياته العملية، وسوف يكون له مردود مادي كبير على فرنسا التي سوف تستفيد من اكتشافه العلاجي ماديًا ومعنويًا.
ولا يمكننا هنا سوى تكرار ما بات يعرف عن ثروات لبنان الطبيعية والتي تتقدمها الثروة البشرية. هذه هي الثروة التي يخسرها لبنان عبر نزف الأدمغة من جهة، وعبر عدم إدارتها وتثميرها بشكل بناء ورؤيوي.
- التأثيرات الديمغرافية
تبيَن أن 28.4% من اللبنانيين الذين هاجروا بين العامين 1975 و1996 راوحت أعمارهم بين 20 و34، وأن 28.1% راوحت أعمارهم بين 35 و49 وذلك بناء على دراسة الدكتور أنيس أبي فرح[22]. كذلك أوردت دراسة الجامعة اليسوعية أن 63.7% من المهاجرين بين 1975 و2001 هي من فئات الشباب الذي تراوح أعمارهم بين 25 و44[23]. كما أفضت الدراسة التي قمنا بها بين أيلول/سبتمبر وكانون الثاني/يناير من العام 2006 إلى أن 62.5% من الذين تراوح أعمارهم بين 21 و30، و56.5% من الذين تراوح أعمارهم بين 31 و40 يريدون الهجرة، ما يدّل على أن الهجرة تطال الشباب الذين يعّول عليهم ليس فحسب في تفعيل الحركة الاقتصادية بل أيضًا في تفعيل الحركة الديموغرافية عبر التزاوج والإنجاب. يدل كل ذلك على أن الهجرة هي خطر متواصل آخر يحدق بلبنان. وهذا الخطر هو واحد لكن له وجهين: الوجه الأول هو في انعدام توافر نسبة الشباب التي تساعد لبنان على المنافسة الاقتصادية وعلى التنمية المستدامة، والوجه الثاني هو في انخفاض نسبة الشباب بحيث يصبح الهرم العمري في لبنان ما دون العشرين وما فوق الخامسة والستين، ما يؤثّر سلبًا على تمويل صناديق الطبابة والشيخوخة والتعليم والمساعدات الاجتماعية. فالأجيال الشابة هي التي تعمل وتموّل الطفولة والشيخوخة، وإذا ما تضاءلت نسبة الشباب تتضاءل معها التمويلات فينتج عن ذلك انخفاض في إمكانات التجاوب مع متطلبات هذه الفئات من المواطنين.
مما لا شكّ فيه أن أولئك الذين يدعمون التحويلات المالية ويفرحون بكميتها يغفلون نقطتين أساسيتين هما أن الهجرة الدائمة تفقد لبنان بنيته الديموغرافية الشابة، كما ستفقده أيضا إنتاج الفئة المادية والمعنوية والديمغرافية من المواطنين أي الأطفال الذين سيولدون خارج الأراضي اللبنانية.
التقرير الذي أعدته دائرة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة يعيد النظر في الإحصاءات المنشورة العام 2006، ويشير إلى أن عدد سكان العالم سيزيد بمقدار 2,5 مليار نسمة في غضون السنوات الثلاث والأربعين المقبلة، وسيرتفع من 6,7 مليارات نسمة (هذه السنة 2007( إلى 9,3 مليارات العام 2050. وستحصل هذه الزيادة المأسوية في البلدان الأقل نمواً بشكل أساسي. وفي الوقت نفسه لن يتغير تقريباً تعداد سكان البلدان الغنية والذي يناهز 1,2 مليار نسمة اليوم، بل سيسجل تدنيًا. إلا أن هذا التدّني سيعوّض عنه باستقطاب 2,3 مليون مهاجر سنويًا. بمعنى آخر، تحتاج الدول المتقدمة إلى 2،3 مليون شخص سنويًا للتعويض عن حاجتها من القوى البشرية.
وبسبب التأثير الناجم عن تراجع الخصوبة وارتفاع معدلات طول العمر سيزداد عدد البلدان التي تنحو شعوبها إلى الشيخوخة: فنصف الزيادة المتوقعة لعدد السكان على الصعيد العالمي سيتمثل بارتفاع عدد الأشخاص الذين تفوق أعمارهم الستين عامًا، ما يعني بأن الدول ذات الخصوبة المتدنيّة لدى شعوبها سوف تكون مجبرة على استقطاب مهاجرين إليها بأفضل الشروط المتوافرة عندها. هذا سيحصل بشكل حتمي إلا إذا ما تكاتفت الدول المصدّرة للمهاجرين كي تحمي نفسها، أولا" من إفراغ مجتمعها من العنصر الشاب ومن الأدمغة، وثانيا" من محاولة تصدير هذه الموارد البشرية بأفضل الشروط والمكتسبات.
- التأثيرات الأخرى
يمكننا هنا الإشارة إلى تأثيرات بعض الكفاءات على العرض والطلب. فبناء على مقابلات أجريناها مع عمداء في جامعة سيدة اللويزة، ومع مسؤولين في النقابات ومع أصحاب أعمال، فإن نخبة المتعلمين وذوي الخبرة في مجالات الهندسة والمعلوماتية والتصميم التصويري والتسويق والاتصالات، قد هاجرت، ما يسبب صعوبة للمؤسسات العاملة في لبنان على استقطاب هذه الكفاءات. كذلك هناك تأثيرات على الاقتصاد والتنمية من حيث فقدانها لمردود الملكية من الاختراعات والبراءات التي تدرّ أموالاً طائلة على الدول التي تتم فيها. ويتأثر الاقتصاد والتنمية مباشرة بفقدان الأدمغة والعنصر الشاب في الوطن فيتدنَّى النمو ويتراجع الإنتاج ويزداد التضخم وتتراجع المنافسة والتصدير، خصوصًا وأن الاقتصاد اليوم يقوم، ليس، فحسب، على المنافسة التكنولوجية، بل أيضاً على المنافسة في استقطاب هذه الأدمغة التي تطور التكنولوجيا. فالإنسان ما يزال هو الركن الأساسي للاقتصاد.
ماذا يعني حدوث هجرة أدمغة من لبنان؟
يعني ذلك أولاً ان لبنان يستثمر كثيرًا في الموارد البشرية، وأن الهجرة تطال اللبنانيين الذين هم في السن الأكثر إنتاجا" (24 - 45)، وأن المتخرجين اللبنانيين من أصحاب الكفاءات هم على المستوى العالمي والإقليمي لجهة قدراتهم العلمية، وأن لبنان يتمتع بموارد بشرية عالية، وأن هذه الموارد لديها رأسمال اجتماعي وبشري تستطيع من خلاله إيجاد توظيفات خارج لبنان وحتى خارج المنطقة وبرواتب منافسة. يعني ذلك أيضًا أن هناك انفتاحًا في لبنان، وأن هناك حرية في التحرك والتنقل. كما يعني ذلك أيضًا أن هناك هوة بين السياسات التعليمية وحاجات سوق العمل، وأن التحويلات المالية للبنان في ازدياد، وأن هناك نقصًا في الموارد البشرية لتلبية السوق المحلية اللبنانية، وأن هذه الهجرة عندما تصبح دائمة تفقد لبنان الأجيال التالية (أي عندما يتزوج أصحاب هذه الأدمغة ويستقرون في بلدان المهجر ينجبون الأطفال في البلدان التي قد هاجروا إليها). وليس خفيًا على أحد أن كندا مثلا" تفضّل هجرة العائلة النواة أي العائلة الشابة المكوّنة من رجل وامرأة من دون أطفال، أو المؤلفة من زوج وزوجة وطفل أو اثنين فقط، وذلك لزيادة عدد سكانها من العنصر الشاب في سن الخصوبة، ومن الأطفال.
كيفية كبح هجرة الأدمغة والكفاءات؟
بينما تسعى الدول المتطورة لاجتذاب الأدمغة من الدول الأخرى، تحشد الدول المتقدمة جهودها للمحافظة على أدمغتها وعلى وضع حوافز لعدم هجرتها. ففي بريطانيا مثلاً قامت الحكومة باستيراد التكنولوجيا من الولايات المتحدة لتحفيز علمائها على البقاء فيها وعدم الهجرة[24] ، أما في الصين فلقد وضعت سياسة تجبر أصحاب الإجازات الجامعية على العمل لمدة خمس سنوات داخل البلاد، أو "افتداء" شهاداتهم بـ6.000 دولار تُدفع للسلطات المعنية[25]. أما في أوروبا، فقد أُقرّت في اجتماعات المجلس الأوروبي المتعاقبة (لشبونه 2000، ستوكهولم 2001، برشلونه 2002 وبروكسل 2003) سياسة زيادة مخصصات الأبحاث بنسبة 3% من الناتج الملحي الإجمالي، وذلك للحيلولة دون هجرة أدمغتها، وكي تعيد استقطاب الأدمغة الأوروبية التي هاجرت، وتجذب الأدمغة من باقي الدول بما فيها الولايات المتحدة الأميركية[26]. أما الهند، والتي كانت قد فقدت الآلاف من أدمغتها، فقد اعتمدت أولاً إنشاء وزارة لشؤون الهنود المقيمين في الخارج، بهدف التواصل مع المهاجرين وتسهيل مشاركتهم على مستوى أكبر في حياة الهند الاقتصادية، ومساعدتهم كما العائدين منهم حيث لا يعوزهم التنقل بين إدارات الدولة والوقوف في الصفوف الطويلة واختبار البيروقراطية وغيرها من العوائق، فيستطيعون تأدية كل حاجاتهم الإدارية والاستثمارية في هذه الوزارة، حتى أن الدولة الهندية بدأت السماح بالجنسية المزدوجة، ما دفع بالكثيرين من الهنود المغتربين إلى العودة مع المليارات من الدولارات، يستقطبهم أيضًا وضع اقتصادي مزدهر وبيئة مضيافة للاستثمار والأعمال، وفرح كبير بأنهم عادوا إلى وطنهم وإلى عائلاتهم[27]. وأما في الدول النامية مثل أثيوبيا وكوريا الشمالية وجنوب أفريقيا فلقد شُرِع أيضا باتباع سياسات تساعد على الحدّ من هجرة الكفاءات العالية. وإذا ما استمرّت هذه السياسات بالتصاعد، فلسوف نرى منافسة حادة بين الدول لاستقطاب هذه الثروات البشرية، ما يعني ارتفاع أثمان هذه الكفاءات وإفادة تلك الدول التي أعدّت نفسها بشكل منظّم وجدّي لكي تدخل سوق المنافسة.
هذا في العالم، أما في لبنان، فمعلوم أن السوق اللبنانية لا تستوعب العمالة اللبنانية وذلك لارتفاع أعداد الخرّيجين الجامعيين وضيق سوق العمل. كما نعلم أن العولمة أفسحت في المجال أمام كل من يرغب في الهجرة إلى حيث يجد عملاً مؤاتيا لطموحاته وكفاءته أياً كان البلد. ونعلم من تعاطينا اليومي مع المهاجرين ومن الدراسات[28] العديدة عن المهاجرين اللبنانيين وتواصلهم مع وطنهم، أن الكثيرين منهم يرغبون في العودة إلى لبنان بعد اكتساب الخبرة من الخارج وذلك لإعادة جمع شملهم بعائلاتهم. نحن ندرك تماماً أنه ليس باستطاعتنا إيقاف الهجرة، لكننا قادرون على إدارتها. وأكثر من ذلك، فهذه الطاقات الخلاقة، وإن لم تعمل في حقل تخصصها ومستواها العلمي في الوطن، تصبح حقاً نوعاً واضحاً من "هدر الأدمغة".Brain waste أليس بقاء هذه الأدمغة في لبنان عاطلة عن العمل، أو اضطرار أصحابها إلى ممارسة أعمال خارج نطاق اختصاصها، هو أيضاً نزف للأدمغة؟ فمتى إذن يصحّ الكلام على نزف الأدمغة، أهو عندما تكون تلك الأدمغة مهدورة وهي في الوطن، أم عندما تهاجر وتستفيد منها دول أخرى؟ في رأينا، أننا في البلدان العربية خصوصًا، نتكلم على هجرة الأدمغة عندما نخسر أصحابها لصالح دول أخرى تفيد منها وتؤمن لها بيئة للإبداع والمنافسة، إلاّ أننا نفعل القليل لإبقاء تلك الأدمغة عندنا وتأمين البيئة المناسبة لها لكي تكبر فينمو معها المجتمع ويعظم الوطن.
وعلى الرغم من كل ذلك، هناك عدة وسائل للحدّ من هذه الهجرة من لبنان هي:
أ - استعادة لبنان سلامه واستقراره وأمنه واعتماد سياسات رؤيوية من خلال:
- معالجة الوضع الأمني والسياسي، ومن ثم استحداث القوانين وتطويرها واعتماد الشفافية في المعاملات الرسمية والتوظيف؛
- تشجيع الجامعات على تنويع برامجها، وتشجيع الطلبة على دخول برامج تقنية عالية وليس وحسب الحصول على دراسات جامعية ليس لها سوق عمل أو أنها أكبر من قدرة سوق العمل اللبنانية على استيعابها؛
- تمويل مراكز أبحاث خاصة وتشجيع التميّز والأفكار الجديدة والاختراعات، وإعطاء المنح للاختراعات والأعمال الرائدة، وحماية البراءات؛
- تمويل دراسات وإتباع سياسات لتكافؤ التعليم مع فرص العمل؛
- تكوين جمعيات علميّة ونقابات فاعلة وشفافة لاستيعاب أصحاب الأدمغة وحمايتهم ضمن عملهم وتذليل العوائق المهنية؛
- تأسيس مركز معلومات حول المهن (Career Information Center)يساعد الطالب في تحديد مساره الدراسي والمهني؛
- تمويل كلفة التدريب عبر تقديم قروض ميسّرة للطلاب في القطاعات التي عليها طلب كثير، لزيادة عدد الكفوئين، لتواصل السوق المحلية تناول حاجتها من هذه الكفاءات و تصدير الفائض؛
- تسهيل دفع أقساط هذه المنح القروض من قبل الطلاب الذين حصلوا عليها وهم يعملون خارج الوطن؛
- تطوير حوافز، أكان ذلك من خلال سياسات معينة أم من خلال برامج محددة تساعد صاحب الكفاءة على العودة بعد السنوات المحددة للهجرة؛
- والعمل على خلق فرص للعمل وتمويل دراسات ومختبرات لتشجيع الأبحاث.
ب - عدم الحدّ من حريّة التحرّك أو التنقّل
إن إطلاق حرية السفر والعودة Freedom of Mobility)) هي ضرورة حتمية إذ لا يمكن إيقاف نزف الأدمغة أو هجرتها من لبنان بالحدّ من حرية التحرّك أو التنقّل والسفر، لان هذه الحريّة هي من مسلّمات حقوق الإنسان التي تحظى باحترام كبير في لبنان.
ج - عدم فرض الضرائب على التحويلات المالية
لا يمكننا إيقاف هذا النزف بفرض الضرائب على التحويلات المالية للمهاجرين بهدف عدم منح المهاجر حجة أخرى للبقاء خارج الوطن نهائيًا، أو دفعه إلى الامتناع عن إرسال تحويلات مالية لأهله بل العمل على استقدام من تبقى منهم ضمن إطار جمع الشمل. إن لمثل هذه السياسات تداعيات اقلّها الهجرة الدائمة وفك الارتباط بالوطن. ولقد أعيد النظر في هذه السياسة في عدة بلدان منها بنغلادش التي أعادت إعفاء تحويلات المهاجرين من الضرائب العام 2000[29].
- إدارة الهجرة
تسعى كل دولة إلى اعتماد خطط تناسبها في خفض نسبة هجرة الأدمغة وحتى في استعادة البعض من مهاجريها. فالعديد منها مثلاً زاد مخصصات البحث العلمي، مثل بريطانيا وأستراليا وتايوان. غير أن الفليبين اعتمدت إدارة مواردها البشرية كاستراتيجية مقصودة للحدّ من هجرة أدمغتها، ولهذا أسست مؤسستين تعنيان بذلك، الأولى هي مديرية التوظيف الخارجي و الثانية مديرية شوؤن العاملين في الخارج. ومن خلالهما سعت للتواصل مع مهاجريها ونجحت عبر إشراكهم في استراتيجية التنمية الوطنية والسياسة الاقتصادية في تحفيزهم على أن يكونوا شركاء لها في المسائل الوطنية والتنموية والاقتصادية. والفليبين التي تعتبر النموذج المثالي في هذا المجال، والتي تحذو حذوها دول أخرى، سعت إلى عقد معاهدات عمالة ثنائية مع العديد من الدول في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا حيث يوجد مهاجروها، كما أبرمت مذكرات تفاهم حول اليد العاملة، الاقتصاد، التجارة، والتعاون التقني مع هذه الدول كجزء من اعتمادها تصدير كفاءاتها ضمن استراتيجية اقتصادية[30].
ويمكن للبنان(بل ينبغي عليه) أن يستفيد من خبرات دول أخرى خصوصاً الفليبين في رسمه سياسات للحدّ من هجرة أدمغته وللإفادة أكثر من هذه الثروة البشرية التي يتحلَّى بها. وفي رأينا أن أكثر السياسات نجاعة للبنان في المرحلة الراهنة والمرحلة المنظورة هي إدارة هجرة الأدمغة والكفاءات كثروة من الثروات المعدّة للتصدير، وذلك بتأسيس مؤسسة مستقلّة لإدارة الثروة البشرية اللبنانية (Head Hunting Organization) تعمل بمنطق المؤسسات الخاصة وباستراتيجية النجاح والربح نفسها، فتقوم بإحصاء الثروة البشرية اللبنانية من خلال إنشاء قائمة بيانات بالتعاون مع الجامعات والمعاهد العاملة على الأراضي اللبنانية، وكذلك مع المؤسسات اللبنانية في المهجر (مثل مؤسسة "المهندسون اللبنانيون-الأميركيون" و"المؤسسة العالمية لجراحي الأعصاب" وغيرها)، ثم تعمد إلى تخمين ثمن تشغيلها وعرضها على الجهة التي هي بحاجة إليها، وتقييم حاجة السوق المحلية، وإيجاد أماكن لتصدير الكفاءات الفائضة عن السوق المحلّي، ومراقبة الحاجة المحليّة والعالمية للكفاءات، وتعديل السياسات التعليمية وسياسات تصدير الموارد البشرية للاستجابة لمتطلباتها، وعقد اتفاقات مع دول، وإبرام عقود مع مؤسسات تهمّها هذه الثروة، لتصديرها لمدة تراوح بين 5 و7 سنوات مقابل قيمتها المادية في السوق العالمية. وبذلك يفيد الوطن ويحمى المهاجر.
أما في الوضع الحالي، فلا حماية أبداً للأدمغة اللبنانية، فهي تصدّر بشروط بعضها غير ملائم وينطوي على ظلم إن من حيث شروط العمل أو الراتب أو شروط تأشيرة العمل والتعهدات والكفالات المالية، ولا يكون للمهاجر من مرجع أو مؤسسة تحميه، خصوصاً وان الجميع يعي وضع لبنان ويعلم بأن الظروف القاسية في الوطن أدت إلى الهجرة القسرية لأبنائه، وأنهم مجبرون على القبول بشروط غير مناسبة بسبب ذلك.
أما المكاسب التي يمكن للبنان أن يجنيها كمصدّر للأدمغة من خلال إدارته لها فهي جمّة، ومن بينها زيادة في نسبة التحويلات المالية لأن المهاجر الذي يهاجر لمدة تراوح بين 5 و7 سنوات لا يستثمر على المدى الطويل في البلد المضيف/المستقطب، فمثلاً هو لن يشتري منزلاً، وتحويلاته المالية ستزداد لكونه سيعود إلى وطنه بعد هذه المدة. هذا عوضًا عن أمور أخرى مثل عدم تفريغ لبنان من كفاءات معينة هو بحاجة إليها، بل اعتماد خطة لتصدير الكفاءات الفائضة، ودرس إمكان وضع خطة لزيادة في التحويلات البشرية والاجتماعية بعودة هذه الأدمغة مع ما اكتسبته في أثناء خبرتها لتثميرها في لبنان على الصعيد الشخصي والاجتماعي والوطني.
خاتمة
مما لا شك فيه أن المهاجرين أصحاب الأدمغة والكفاءات قد ساعدوا بل كانوا عاملاً فاعلاً في تطور الدول المتقدمة. فالأدمغة المهاجرة التي استوعبتها الدول المضيفة ساعدتها على أن تكون في الطليعة في مجال العلوم والتكنولوجيا والطب والهندسة والعلوم الاجتماعية وغيرها. هذه الأدمغة أعطت الولايات المتحدة ثلاًثين إسماً في هذه المجالات وأكسبتها نسبة عالية من الجوائز العالمية ومنها الجائزة الأكثر اعتباراً في العالم (جائزة نوبل – حيث أن الولايات المتحدة نالت أعلى نسبة من جوائز نوبل في مختلف العلوم والمباحث). غير أن الوطن الأم لهذه الأدمغة أفاد بطريقة غير مباشرة من الاختراعات والتطورات التي أنجزها أصحاب هذه الأدمغة الذين صدّروا إلى الخارج. لكن ذلك لا يكفي، ففي الوقت الذي يهجّر لبنان من مواطنيه، تسعى دول كثيرة وفي مقدمها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى بكل ما أوتيت من قوة لوضع استراتيجيات وسياسات لاستقطاب الأدمغة والمهاجرين الكفوئين وللحدّ من الهجرة العامة التي لا تتناسب مع خطط تنميتهم وتطورهم. وعليه فان الدول النامية المصدّرة لهذه الأدمغة والكفاءات يجب أن تحذو حذو هذه الدول بوضع إستراتيجيات وسياسات للإفادة من هذه الثروات التي تتمتع بها وإفادة مواطنيها عبر إبرام اتفاقيات وعقود توفّر أفضل شروط العمل لمواطنيها. وعلى المعنيين في لبنان التعامل مع الواقع بكل وعي وبتخطيط ذكي ومستقبلي. وإذا كان اللبناني الكفوء مطلوبًا بشدة من الخارج، فعلى الدولة تسهيل درب هجرته ليحقق الفائدة القصوى المرجوّة ويتمتع بالحماية المناسبة. وكذلك ينبغي على الدولة أن توضّح لمن يعنيه الأمر من مواطنيها أن الهجرة هي "خيار" لكنها ليست استراتيجية التنمية الرسمية. كما على لبنان أن يتخطى حالة البكاء على الأطلال ونعي هجرة الأدمغة فيه، والعمل على الإفادة من موارده البشرية وتكريس الفائض منها سلعة للتصدير، فينتقل من هجرة الأدمغة إلى تصديرها.
مراجع
- Docquier, F. and A. Marfouk, “International Migration by Educational Attainment (1990-2000) – Release 1.1”, updated version of Release 1.0, World Bank Policy Research Working Paper, n. 3382 published in August 2004, March 2005.
- Akl, E. et All. “Graduates of Lebanese Medical Schools in the United States: An Observational Study of International Migration of Physicians” BMC Health Services Research, 2007, 7: 49 [http://www.biomedcentral.com/1472-6963/7/49].
- Akl, E. et All. “Why Are You Draining Your Brain? Factors Underlying Decisions of Graduating Lebanese Medical Students to Migrate". Social Science and Medicine, 2007, 64:1278-1284.
- C. Osden & M. Schiff (eds). "International Migration, Remittances and the Brain Drain", World Bank and Palgrave Macmillan, Washington, D.C. 2005.
- Fatfat, M. “The Migration of Lebanese Professionals to the U.S.: Whey they Left Lebanon and why They Are Staying in the U.S.” Ph.D. dissertation submitted to the Graduate Faculty of Education in partial fulfillment of the requirements for the degree of Doctor of Philosophy, University of Pittsburgh, 1998.
- Hourani G. and E .Sensenig-Dabbous. Insecurity, Migration and Return: The Case of Lebanon Following the Summer 2006 War. CARIM Research Reports Series No. RR2007/01, Robert Schuman Centre for Advanced Studies, San Domenico di Fiesole (FI): European University Institute, 2007. Study published electronically by the Euro-Mediterranean Consortium for Applied Research on International Migration (CARIM), [http://www.iue.it/RSCAS/e-texts/CARIM-RR2007_01_Hourani&Sensenig.pdf ].
- Hourani, G. “Emigration, Brain Drain and Remittances: Sample of the Public Discourse in Lebanon,” unpublished paper presented to the Florence Summer School on International Migration, September 2005.
- Hourani, G. “Emigration, Transnational Family Networks, and Remittances: Overview of the Situation in Lebanon,” Mediterranean Forum on Migrations A Challenge for the City: Integration, Security and quality of Life in the Mediterranean Area, The Institute for Mediterranean Studies, University of Lugano, Lugano, Switzerland, September 30 – October 1 2005. Paper published on [http://www.ism.unisi.ch/ forummigrazioni06.pdf].
- Kasparian, Ch. "L’Entrée des Jeunes Libanais dans la Vie Active et l’Émigration des Libanais depuis 1975" Vol. III, Presses de l’Université Saint Joseph, 2003
- Mullan, F. “The Metrics of the Physician Brain Drain,” The New England Journal of Medicine, No 353, Issue 17, 27 October 2005, pp. 1810-1818.
- § Özden, Ç. “Brain Drain in Middle East & North Africa: The Patterns under the Surface” UN expert group Meeting on International Migration and Development in the Arab Region, Population Division Department of Economic and Social Affairs, United nations Secretariat, Beirut 15-17 May 2006.
- Theodory, G. Career "Planning in Lebanon’s Secondary Schools”, in The Arab Brain Drain, Proceedings of a Seminar Organized by the Natural Resources, Science and Technology Division of the United Nations Economic Commission for Western Asia, Beirut 4-8 February 1980, Edited by A.B. Zahlan, Ithaca Press, London, 1981, pp.85-101.
- أبي فرح، انيس، "السكان والبطالة والهجرة في لبنان 1982-2001"، منشورات الجامعة اللبنانية قسم الدراسات الإحصائية، رقم 4، بيروت 2005.
- الاتحاد البرلماني العربي، "مذكرة الأمانة العامة حول جوهر الأدمغة العربية: وضع سياسة واضحة لاستيعاب الكفاءات العربية والحد من هجرتها إلى الخارج"، مجلة البرلمان العربي، السنة الثانية والعشرون، العدد82، كانون الأول 2001، [www.arab-ipu.org/publications/journal /v82/memobrain.html].
[2] I. Sirkeci, The Environment of Insecurity in Turkey and the Emigration of Turkish Kurds to Germany (New York: Edwin Mellen Press, 2006), p. 21.
[3] F. Docquier and H. Rapoport, “The Brain Drain”, Institut de Recherches Économiques et Sociales, Département des Sciences Économiques, Université Catholique de Louvain, Octobre 2006, p. 2. [http://www.ires .ucl.ac.be/CSSSP/ home_pa_pers/docquier/filePDF/DR_ PalgraveBrainDrain.pdf].
[4] الاتحاد البرلماني العربي، مذكرة الأمانة العامة، مجلة البرلمان العربي، السنة 22، العدد 82، كانون الاول 2001 ، [www.arab-ipu.org/publications/journal/v82/memobrain.html].
[5] أنيس ابي فرح، "المغتربون بين 1975 و2001", جريدة السفير، 3 كانون الأول 2001، ص 6.
[6] Ch. Kasparian, L’Entrée des Jeunes Libanais dans la Vie Active et l’Émigration des Libanais depuis 1975, Vol. III, Presses de l’Université Saint Joseph, 2003.
[7]F. Docquier et all. “International Migration by Educational Attainment (1990-2000)”, March 2005, [http://www.ires.ucl.ac.be /CSSSP/home_pa_pers/docquier /filePDF/DM_ozdenschiff.pdf].
[8] F. Mullan, “The Metrics of the Physician Brain Drain”, The New England Journal of Medicine, Vol. 343, No. 17, October 27-2005, pp. 1810-1818.
[9] المرجع السابق ص 1812.
[10] المرجع السابق ص 1815.
[11] E. Akl et all. "Graduates of Lebanese Medical Schools in the Untied States: An Observational Study of International Migration of Physicians", BioMed Central Health Services Research, Vol. 7, No. 49, 2007, [http://www.biomedcentral.com/1472-6963/7/49]
[12] Ç. Özden, "Brain Drain in Middle East and North Africa: The Patterns Under the Surface", United Nations Expert Group Meeting on International Migration and Development in the Arab Region, Population Division, Department of Economics and Social Affairs, United Nations Secretariat, Beirut, 15-17 May 2006, p.12.
[13] أبي فرح المرجع السابق ص 6.
[14] M. Beine, F. Docquier and H. Rapoport, "Brain Drain and Human Capital Formation in Developing Countries: Winners and Losers", Département des Sciences Économiques de l’Université Catholique de Louvain, Discussion Paper 2006-23, Revised Version, May 2006, [http://www.ires.ucl.ac.be/DP/IRES_DP/2006-23.pdf ].
[15] "Human Development Report: New Dimensions of Human Security." 1994. November 18, 2006
[http://www.undp.org/r eports/global/1994/en/default /cfm,UNDP]
[16] OECD Factbook 2007, page 267, [http://caliban.sourceoecd. org/vl=4753438/cl=11/nw=1/rpsv/f actbook/12-04-03-g01.htm].
[17]Migrant Remittances to Regions Neighbouring the EU, February 2007, p. 90, [http://www.eib.org/cms/htm/ en /eib.org/attachments/general/events /femip_conference_2007_ tumpelgugerell_01_en.pdf].
[18] The Role of Remittances in Leveraging Sustainable Development in Latin America and the Caribbean, Testimony of Dr. Elisabeth Ryune, Senior Vice President for ACCION International before the Subcommitte on Domestic and International Monetary Policy, Trade and Technology of the Committee on Financial Services, U.S. House of Representatives, March 7, 2007, p. 3. [http://www.accion.org/file_download.asp?f=32].
[19] Jørgen Carling, Cape Verde: Towards the End of Emigration?, Migration Information Source, November 2002, [http://www.migrationinformation.org /Profiles/print.cfm?ID=68].
[20] Louis DeSipio, "Sending Money Home...For Now: Remittances and Immigrant Adaptation in the United States", Inter-American Dialogue, January 2000, [http://www.thedialogue.org/ publications/DeSipio.asp]
[21] Dilip Ratha and Zhimei Xu, "Migration and Remittances Factbook", Migration and Remittances Team, Development Prospects Group, World Bank, [http://siteresources.worldbank.org/ INTPROSPECTS/Resources/334934-1181 678518183/Lebanon.pdf]
[22] أبي فرح المرجع السابق ص 6.
[23] Kasparian page 45.
[24] Siamak Faridani, Brain Drain, Pitch Up, 2005, p.4
[http://eml.ou.edu/siamak/ braindrain/BrainDrain.pdf].
[25] المرجع السابق ص 4.
[26] Pierpaolo Giannoccolo, "Brain Drain Competition Policies in Europe: A survey", February 2005, p. 4, [http://amsacta.cib. unibo.it/archive/00001755 /01/534.pdf]
[27] Forum International for Ethiopians Living in Diaspora, (FIELD),Transforming Brain Drain Into Brain Gain, Final Report, Part I, p.4, January 14, 2005, [http://www.aheadonline.org /thepotentialwithin.pdf].
[28] Guita Hourani and Eugene Sensenig-Dabbous. Insecurity, Migration and Return: The Case of Lebanon Following the Summer 2006 War, A study published electronically by the Euro-Mediterranean Consortium for Applied Research on International Migration (CARIM), [http://www.iue.it/RSCAS/ e-texts/CARIM-RR2007_01_ Hourani&Sensenig.pdf ] and Guita Hourani, The Impact of the Summer 2006 War on Migration in Lebanon: Emigration, Re-Migration, Evacuation, and Returning, paperback. Published by the Lebanese Emigration Research Center, NDU Press, 2006. ISBN 9953-457-55-7.
[29] Tasneem Siddiqui, Efficiency of Migrant Workers’ Remittance: The Bangladesh Case, 2004, [http://www.samren.org/ Research_Papers/doc/ADB%20 Remittance%20Study.pdf].
[30] D. Addy, B. Wijkström and C. Thouez, "Migrant Remittances – Country of Origin Experiences: Strategies, Policies, Challenges and Concerns", The International Migration Policy Programme (IMP)London 9-10 October 2003, p. 19-20, [http://www.livelihoods.org/hot_topics /docs/REMITPAPER.doc].
The researcher sheds light on the issue of immigration from the angle immigration of competences from Lebanon and placed it in its scientific framework.
At first she considers that the human competences and expertise are just as important as the natural resources and therefore they are considered as a valuable human capital which should not be neglected in vain.
The researcher proceeds based on numerous published studies which indicate that Lebanon ranks twenty one between the first twenty five countries that suffer most from the immigration of its citizens and points out that 39% of the Lebanese who immigrated in the year 2000 were among the university graduates. She also indicated that almost two thirds of the Lebanese people (according to one of the reliable statistic studies) expressed their desire to immigrate from their country.
If the main reasons of this immigration are related to the lack of job opportunities inside Lebanon, the researcher finds it necessary to support the competent individuals by protecting them during their immigration so that they do not fall victim to the influence of the parties which employ them and consequently lose their rights or most of them and their country loses them as promising competences
La chercheuse illumine sur le sujet de l’émigration, du point de vue de la fuite des compétences du Liban, tout en la plaçant dans son cadre scientifique. Elle considère que les compétences et les expertises humaines revêtent la même importance que les sources naturelles, et sont par la suite un capital humain riche, qu’il ne faut pas gaspiller vainement.La chercheuse se base sur certaines études publiées, indiquant que le Liban occupe la 21ème place parmi les 25 premiers pays dans le domaine de l’émigration. A noter que 39% des libanais qui ont émigré en l’an 2000, étaient détenteurs de compétences universitaires ; sans oublier que près des deux tiers des libanais (selon une étude statistique documentée) ont exprimé leur désir de quitter leur pays vers l’étranger.Si les raisons principales de cette émigration sont liées à l’absence des opportunités de travail au Liban, la chercheuse voit une nécessité d’aider les détenteurs de licences en les protégeant lors de leur émigration, afin qu’ils ne soient pas la proie des partis avec lesquels ils vont signer des contrats, et perdront leurs droits, et par la suite leur nation sera dépourvue des compétences prometteuses.