- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
لا شك أن الولايات المتحدة الأميركية تمثّل دولة عظمى بكل المعايير المادية، إن لم نقل الدولة الأعظم في العالم في الوقت الحاضر، لكنها مع ذلك لا تمثّل الدولة الأعظم من ناحية القوة السياسية والأخلاقية والمعنوية. وهي كانت في الماضي قد عاشت ردحاً طويلاً من الزمن في حالة شبه عزلة عن العالم الذي يفصلها عنه المحيط الأطلسي من ناحية والمحيط الهادئ من ناحية أخرى. ولم تكن تحتاج الى الدخول في حروب وصراعات الأمم والشعوب الأخرى، بل كانت تنعم بحياة وظروف جيدة جداً مستفيدة من مساحتها الشاسعة وثرواتها الضخمة والمنوعة، ناهيك بالتقدم العلمي الممتد منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً.
لم تكن أميركا بحاجة الى الدخول في حربين عالميتين طاحنتين، إلا أن انكلترا التي كانت تتعرّض لهجوم كاسح من قبل النظام النازي في ألمانيا، بادرت الى توسيط اليهود (الذين عقدت معهم حلفاً سرياً في ما سمي وعد بلفور العام 1917)، والذين كانو قد تغلغلوا في مواقع حساسة في الإدارة والمال والإعلام في أميركا، من أجل الضغط على المسؤولين الأميركيين. هؤلاء كانوا وما يزالون بحاجة الى المال اليهودي والصوت اليهودي لكي يدخلوا الحرب لإنقاذ الحلفاء في حينه من هزيمة متوقعة وشيكة أمام القوات الألمانية. لقد كان ثمن هذه الوساطة قيام انكلترا سايكس بيكو بتثبيت أقدام اليهود والصهاينة في فلسطين. واعتبر اليهود آنذاك أنهم بوساطتهم تلك سيكسبون «الدولة»، وسيكسبون في الوقت عينه ايضاً مستقبل هذه الدولة من خلال تسخير القوة الأميركية المتصاعدة التي قدّروا أنه لن يكون بمقدور أحد في العالم الوقوف بوجهها على مدى المستقبل بأكمله.
بطبيعة الحال لم تدخل أميركا الحربين العالميتين ولا الحروب الكثيرة اللاحقة في منطقتنا بشكل خاص لحسابات تتعلّق بمصالحها الحقيقية والموضوعية بل لأسباب وحسابات شخصية لدى المرشحين الكثر لرئاسة هذه الدولة العظمى، والشواهد على ذلك لا تحصى. ومثل هذه الحسابات أفقدت الإدارات الأميركية المتلاحقة الصدقية والهالة الأخلاقية التي كانت قد نسبتها لنفسها منذ بداية تأسيسها مع شخصيات لامعة مثل واشنطن ولينكولن وولسون. ومع مرور الوقت تشوّهت الصورة الأميركية المشرقة في العالم بسبب التأييد السافر وغير المبرر إنسانياً وأخلاقياً وقانونياً للأطماع الصهيونية في فلسطين وسائر الدول العربية، ناهيك عن استخدام الڤيتو في مجلس الأمن الدولي في مواقف مخزية تكرّس تهمة النفاق على السياسة الخارجية الأميركية وتثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن هدف هذه السياسة إنما ينحصر في خدمة إسرائيل حتى لو أدى ذلك الى الإضرار بالمصالح الوطنية الأميركية الذاتية. ومشاهد المرشحين للرئاسة الأميركية وهم يتسكعون على أبواب مراكز اللوبيات اليهودية وأمام ما يسمى حائط المبكى في القدس مع اعتمار القلنسوة اليهودية الدينية، إنما يمثل شاهداً حياً على هذا الواقع العجيب الغريب.
العام 1941 ألقى الطيار الأميركي المشهور ليندنبرغ، الذي كان أول من عبر المحيط الأطلسي بطائرته العام 1927 من نيويورك الى باريس، خطاباً أمام الآلاف من الأميركيين في ولاية ايوا جاء فيه ما يلي: إن أميركا تتورّط الآن في دخول الحرب العالمية الثانية، والذي يورّطهم في هذه الأزمة هم الإنكليز واليهود. وأضاف: «إن اليهود يريدون لنا التورّط في الحرب لأسباب مفهومة من وجهة نظرهم بقدر ما هي غير حكيمة من وجهة نظرنا، لأنها أسباب غير أميركية». وقال: «نحن لا نستطيع لومهم لأنهم يتطلعون الى ما يعتقدون به لصالحهم، ولكننا نحن ايضاً يجب أن نتطلع الى صالحنا، ونحن لا نستطيع أن نسمح للعواطف الطبيعية لقوم آخرين وتحيزاتهم، بأن تدفع ببلادنا الى الخراب». إلا أن كلام ليندنبرغ وأمثاله من الأميركيين المخلصين ذهبت أدراج الرياح، وتغلّبت المصالح الشخصية والرئاسية لدى المرشحين اللاهثين وراء الصوت اليهودي والدعم اليهودي على ما سواها من حسابات وطنية أخرى.
في أثناء حرب العام 1967 التي شنّتها إسرائيل على ثلاث دول عربية (مصر والأردن وسوريا)، وبعد احتلال سيناء بثلاثة أيام، قام الطيران الإسرائيلي بقصف سفينة التجسّس الأميركية «ليبرتي» في البحر المتوسط من أجل الحيلولة دون الكشف عن المخطط الصهيوني لاحتلال الجولان، الأمر الذي لم تكن تعلم به أميركا، وقد قتل في ذلك القصف أربعة وثلاثون بحاراً أميركياً وجرح مئة وواحد وسبعون آخرون، ودام تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق السفينة المنكوبة ست ساعات كاملة واستمر القصف سبعين دقيقة.
الحكومة الإسرائيلية اعتبرت ما حصل حادثاً عرضياً وتمّ حفظ القضية على الرف. وبعد مرور ثلاثة عشر عاماً على الحادثة كشف ضابط الاتصال الأميركي الذي كان على متن السفينة عن أن الهجوم كان متعمّداً، الأمر الذي أكّده ايضاً الأميرال توماس مور رئيس أركان الجيوش المشتركة سابقاً حيث قال: «لقد كانت حادثة قتل؛ إلا أن الرئيس الأميركي جونسون كان يخشى ردود فعل الناخبين اليهود، ثم أردف يقول: «إن الشعب الأميركي كان يمكن أن يصبح مجنوناً لو عرف حقيقة ما جرى. لقد تكتّم الرئيس وقيادات الجيش والحكومة على هذه الفضيحة، طمعاً في أصوات الناخبين اليهود». وفي حرب العام 1973، روى مور أن الملحق العسكري الإسرائيلي في واشنطن موردخاي غور طلب منه تسليم إسرائيل سرباً من الطائرات المسلّحة بصاروخ جديد متطوّر جداً إسمه «مافريك» فأجابه مور: «إننا لا نستطيع تسليمكم هذا النوع من الطائرات والصواريخ، فليس لدينا سوى سرب واحد منها، وقد ناقشنا أمره قبل ذلك في الكونغرس وقلنا إننا نحن في أمسّ الحاجة اليه»، فأجابه موردخاي: «أعطني أنت الطائرات وأنا أتكفّل بالكونغرس». كذلك طلب وزير الدفاع الإسرائيلي شارون في أثناء حرب العام 1982 على لبنان، من وزير الدفاع الأميركي، تزويده صفقة من القنابل العنقودية الممنوعة دولياً، فرفض الوزير الأميركي لمخالفة ذلك القوانين الأميركية، إلا أن الإسرائيليين ما لبثوا بعد وقت وجيز أن تسلّموا الصفقة واستخدموها ضد المدنيين في لبنان بعد أن أقرّها ووقّعها الرئيس ريغان نفسه.
إن هوس أغلب الرؤساء الأميركيين بتولي منصب الرئاسة لمدة أربع سنوات مع الحلم الدائم بالتجديد لولاية ثانية، قد جعلهم أسرى في أيدي اللوبيات الصهيونية المتطرفة التي لا تلبث أن تفرض عليهم، عن قناعة أو عن غير قناعة، سياستهم الخارجية اتجاه الشرق الأوسط. وهكذا نشبت الحروب الإسرائيلية أولاً والأميركية ثانياً ضد كل من العراق ولبنان وفلسطين، وهكذا ايضاً يتم التحضير للعدوان الصهيوني على كل من إيران وسوريا، مع كل ما رافق تلك الحروب من مظاهر الإجرام والتطهير العرقي وانتهاك حقوق الإنسان والقوانين والأعراف الدولية، مما يزيد من الكراهية والحقد ضد الإسرائيليين وخيبة الأمل والنفور من الأميركيين، وهذا خلافاً للمصالح الوطنية الأميركية بالذات وخلافاً لمصالح العالم بأسره.
لقد قدّرت دراسة أجرتها مجموعة «استراتيجيك فورسايت غروب» للأبحاث كلفة الحروب التي حرّكتها إسرائيل أو حرّضت عليها خلال العقدين الماضيين فحسب بنحو 12 تريليون دولار من دون احتساب كلفة الحرب على قطاع غزة، الأمر الذي تسبّب بزيادة نسبة الفقر لدى شعوب المنطقة وانخفاض نسبة مداخيل الفرد فيها الى أقل من النصف. كما وأدى ذلك الى جعل الشرق الأوسط أكثر المناطق عسكرة في العالم وأكثر المناطق تضرراً لجهة انخفاض مستوى التعليم والتقديمات الإجتماعية وتضرر البيئة وتفشّي البطالة وتزايد روح التعصّب. وانتهت الدراسة الى التشديد على أن الفرص التي يوفّرها السلام الواقعي والموضوعي كثيرة جداً منها توفير المصادر الجديدة للنفط والغاز الطبيعي والمياه والإستثمارات ومخصّصات التعليم والصحة والخدمات الإجتماعية، وهي خيرات لا تُحصى انما يحبسها الطمع الصهيوني والإنقياد الدولي الأعمى وراء موجبات هذا الطمع.