- En
- Fr
- عربي
مرآة الحياة
من المتعارف عليه علميًا منذ غابر الأزمان، أهمية مادة الزئبق، في عملية استخراج المعادن الثمينة، وخصوصًا الذهب والفضة، نظرًا إلى احتوائها على عناصر كيميائية قادرة على تنقية المعدن الخام من الشوائب واستخلاص الصافي منه، وكذلك أهميتها في ضبط أجهزة الطبوغرافيا والضغط والإضاءة وغيرها...
ومن المتعارف عليه أيضًا صعوبة التحكم بها، نتيجة تقلّبها السريع من اتجاه إلى آخر لدى تأثرها بأي حركة صغيرة، إلى جانب خطورتها الكبيرة على سلامة البشر والكائنات كافة، وهذا ما استدعى من الأمم المتحدة إصدار توصية باستخدام مواد بديلة من هذه المادة السامة والقاتلة.
وللزئبق أنواع عديدة، أغربها الزئبق الأحمر، غير المثبت وجوده علميًا حتى الآن، والذي نسج حوله الكثير من الخرافات والأساطير، لجهة قدرته الخارقة على استدعاء الجن، وكشف خبايا النفوس والمستور من عالم الغيب.
لكنَّ نوعًا آخر من الزئبق لا يؤمن جانبه على الإطلاق، ولا يزال غير مدرج على لائحته المعروفة، على الرغم من حضوره الواضح في كلّ زمان ومكان. إنه الزئبق الإنساني الذي يضاهي بخطورته المستدامة ومفاعيله الشاملة جميع نظائره، فكم من مرة كان لهذا الزئبق الكلمة الفصل في تحديد مستقبل الأوطان، وتقرير مصائر الشعوب والأفراد على السواء.
فالدولة الزئبقية هي تلك التي تنقلب على ثوابتها ومبادئها بين ليلة وضحاها، وفق تغيّر مصالح ساستها، أو خضوعًا للدول الأشدّ منها قوةً ونفوذًا. ويعتمد هؤلاء الساسة لتبرير انقلابهم المفاجئ، وجعله طبيعيًا إلى أبعد حدّ ممكن، أساليب التضليل والمزايدة والهروب إلى الأمام، وتركيز الدعاية على قضايا جزئية أو ثانوية، وصولًا إلى الدفاع المستميت عن حق يراد منه باطل. فتتحول بالنسبة إليهم، قضايا العدالة والحرية والمساواة، كما الجريمة والظلم والتمييز، وجهات نظر لا أكثر ولا أقل.
الرجل الزئبقي في الحياة العامة، هو الذي يستدير على حين غرّة نحو الاتجاه المعاكس تمامًا، انصياعًا للأقدر والأقوى أو حفاظًا على مكتسباته الشخصية، فلا يتوانى عن النكث بعهوده ووعوده، وحتى التعبير جهارًا عن أحقاده الدفينة في مكنونات نفسه.
أمّا المرأة الزئبقية فهي تلك التي تسيّرها رياح المشاعر في كلّ اتجاه، فتتساوى الأضداد في مخيلتها، ويستوي الليل والنهار بين كفيها، وتختلط الألوان في لوحة أيامها، وأي سعي إلى تحليل مسار طبعها هو ضرب من التنجيم والتبصير.
في الخلاصة، الزئبق الإنساني هو مزيج من الأنانية والضعف والرياء، وانتشاره الواسع في عالمنا الحاضر، بات يتهدد المجتمعات البشرية في صميم قيمها واستقرارها وتطورها، ولا سبيل للخلاص من هذا الخطر المحدق بالجميع، إلاّ من خلال صهر القلوب بنار التضحية، وكسر حاجز الخوف بالانتصار على الذات، وقبل كلّ شيء بالعودة إلى فضيلة الصدق وهي كما أنشأتنا مدرسة الجندية وعلّمنا الآباء والأجداد، أمّ الفضائل وينبوع الينابيع...