قضايا إقليمية

العدو الإسرائيلي في مواجهة الجنائية الدولية
إعداد: إحسان مرتضى - باحث في الشؤون الإسرائيلية

بينما يعتبر الفلسطينيون مستوطنات الضفة الغربية، التي تضم أكثر من 500 ألف مستوطن يهودي، غير شرعية وتشكل عقبة كأداء أمام حلم استقلالهم الوطني، وهي الفكرة التي يدعمها المجتمع الدولي نظريًا على الأقل، يُعلن الوزراء الإسرائيليون المعنيون عن إقامة المزيد والمزيد من المستوطنات والمحميات الطبيعية الجديدة في الضفة الغربية، وتوسيع القائم منها.

وفي هذا السياق، كانت نقطة التحول الرئيسة بالنسبة إلى العدو الإسرائيلي والفلسطينيين عندما أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بأنّ بلاده لا تَعتبر المستوطنات المنشأة في الضفة غير قانونية. هذا الإعلان التاريخي أدى دورًا رئيسًا في فتح شهية نتنياهو وإعلانه عن ضم غور الأردن، المنطقة الاستراتيجية بالغة الأهمية والتي تضم العديد من المستوطنات.

 

الجرائم التي قد تبحث فيها المحكمة

لكنّ ما سبق لا يعني غياب إدانة المجتمع الدولي لهذه الممارسات. فقد سبق للمدّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة أن أعلنت أنّ هناك «أساسًا معقولًا» للاعتقاد بأنّ بناء المستوطنات يشكل جريمة حرب، ما سبّب حرجًا وإزعاجًا للمسؤولين الإسرائيليين. وأعلنت المدعية العامة «أنّه بناءً على تحليل مستقل وموضوعي لجميع المعلومات المتوافرة لدى مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية بشأن الحالة في فلسطين، فقد قررت أنّ جميع المعايير لفتح التحقيق الجنائي قد استُكملت، ما يعني أنّها جاهزة لفتح تحقيق». واستدركت: «لكن بناءً على ميزة الحالة في فلسطين والتعقيدات القانونية الكبيرة المرافقة لها، فقد قررت اللجوء إلى الدائرة التمهيدية الأولى لطلب حكم منها بشأن الولاية الإقليمية على الأراضي الفلسطينية». وتابعت: «طلبت من الدائرة التمهيدية الأولى تأكيدًا بأنّها تمتلك ولاية لممارسة اختصاصها على كامل الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية وقطاع غزة، وهذا الاستنتاج هو لأغراض حصرية من أجل تحديد ولاية المحكمة لممارسة اختصاصها القضائي ونطاق تطبيق ميثاق روما». ومن أجل ذلك، فالمحكمة قد تبحث في جرائم الاغتيالات وعمليات الإعدام الميدانية لشبان فلسطينيين على الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية، وإعدام المتظاهرين واستهداف الصحافيين، وقد يصل الأمر إلى محاسبة المرتكبين على استخدام أسلحة محرَّمة دوليًا خلال حروب «إسرائيل» على غزة .

في السياق نفسه، علّق يوفال شاني، خبير القانون الدولي في معهد إسرائيل للديمقراطية على ما يحصل بالقول، إنّ الضم «سيزيد بشكل كبير» خطر إثارة المحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية، حيث يُنظر إلى المستوطنات على نطاق دولي واسع على أنّها غير قانونية بناءً على مبدأ اتفاقية جنيف. وفي حين أنّ المحكمة ستواجه صعوبة في محاكمة المرتكبين الإسرائيليين، إلا أنّها قد تصدر أوامر اعتقال تجعل من الصعب على المسؤولين منهم التنقل في الخارج. وقال شاني إنّ القضية في المحكمة الجنائية الدولية ستكون محرجة للغاية للحكومة.

 

يوم أسود

بعبارة «يوم أسود» وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قرار المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في ارتكاب إسرائيليين «جرائم حرب» محتملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يعطي مؤشرًا على تخوُّف من الإدانة، واستدعاء قادة عسكريين وسياسيين إلى المحكمة الدولية. وبموجب قرار المحكمة، سيكون العدو الإسرائيلي أمام مساءلة قانونية ملزمة له إزاء الانتهاكات والاعتداءات التي ارتكبها ويرتكبها ضد المدنيين الفلسطينيين، لكون فلسطين أصبحت دولةً عضوًا في المحكمة وحظيت باعتراف دولي واسع. ومعلوم أنّه خلال السنوات القليلة الماضية، ارتكبت سلطات الاحتلال انتهاكات بالجملة ضد الفلسطينيين، وبخاصة في غزة، وذلك خلال ثلاث حروب شنّتها على القطاع المحاصر، أولاها أواخر العام 2008، والثانية في تشرين الثاني 2012، والثالثة في صيف العام 2014، ثم الحرب الدائرة منذ تشرين الأول 2023. وقد توصّلت منظمات حقوقية محلية ودولية إلى الإقرار بأنّ الانتهاكات الجرمية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة ترتقي إلى مستوى جرائم حرب. بذلك، فإنّ باستطاعة الفلسطينيين أن يتقدموا برفع المئات بل الآلاف من الدعاوى في قضايا ارتكاب جرائم حرب ضدهم، مع العلم بأنّ تلك القضايا قد تطال شخصيات سياسية وعسكرية إسرائيلية بارزة، وقد تشمل رؤساء أركان سابقين وحاليين ورؤساء جهازَي الموساد والشاباك ووزراء الحرب ووزراء الخارجية والتربية والتعليم والبناء والإسكان ورؤساء مجالس المستوطنات، لا سيما مع وجود سوابق قضاء دولية بجرائم حرب اضطرت على إثرها وزيرة خارجية إسرائيل في الفترة ما بين 2006-2009 تسيبي ليفني، التي كان لها دور في الحرب على غزة خلال العامين 2008-2009، إلى إلغاء سفرها لكل من بروكسل ولندن خوفًا من استدعائها للتحقيق ومحاكمتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وبالتالي، فإنّ الانزعاج الإسرائيلي من القرار قد عكس الخوف من كشف الوجه الحقيقي للاحتلال، الذي ينتهك حقوق الإنسان ويخرق القانون الدولي، وما محاولات التهرّب والتنصّل الإسرائيلي الرسمي الحثيثة، سوى اعتراف ضمني بالجرائم التي ارتُكبت وتُرتكب بحق الفلسطينيين أمام الملأ.

 

بصيص نور وأمل

وجدير بالذكر أنّ المحكمة الجنائية الدولية كانت قد تأسست في شهر تموز 2002، وللمحكمة بموجب نظامها الأساسي اختصاص النظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجريمة العدوان، ومحاسبة كل من يرتكب مثل هذه الأعمال الوحشية. وتنصّ ديباجة نظام روما الأساسي لهذه المحكمة على عزم الدول الأطراف المنتسبة إليها على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب، وعلى الإسهام من ثم في منعها. وبعد منح الأمم المتحدة فلسطين صفة «عضو مراقب» فيها، بدأت بإحالة عدد من الملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية، وكان أولها في العام 2015، وذلك بموجب المادة 12 من نظام روما الأساسي. وفي 7 كانون الثاني 2015، أبلغ مسجّل المحكمة الجنائية الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبوله الإعلان الذي أودعته فلسطين بمقتضى نظام روما، وأنّه قد تمّ تحويل الإعلان إلى المدعية العامة للنظر فيه. وبعد ذلك أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بوصفه الجهة المودع لديها صك الانضمام، القبول بانضمام فلسطين إلى نظام روما، وأصبحت فلسطين الدولة الـ 123 لدى المحكمة الجنائية الدولية. وعلى أثر اتخاذ هذا الإجراء، بات لدى الشعب الفلسطيني المظلوم بصيص نور وأمل بشيء من العدالة بعد كل الذي كابده من الإجحاف والعذاب على امتداد نحو مئة عام.