- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
شكلت نتيجة الانتخابات التشريعية الفلسطينية وفوز حركة حماس فيها، صدمة كبيرة لدوائر صنع القرار والنخب الحاكمة في الدولة العبرية، بعد ان تصورت هذه الدوائر وتلك النخب سيناريو التعاطي المستقبلي مع القضية الفلسطينية بناءً على افتراض فوز حركة فتح. وقد سارعت هذه الدوائر والنخب الى محاولة تفسير فوز الحركة واستقراء التداعيات المترتبة على هذا الحدث التاريخي المباغت، أولاً من أجل الاستفادة من أخطاء الماضي، وثانياً من أجل تسخير المتغيرات في خدمة الاستراتيجية الصهيونية البعيدة المدى.
لقد اتفق العديد من الباحثين والمعلقين الاسرائيليين على تحميل اسرائيل قسطاً هاماً من المسؤولية عن فوز حركة حماس، وذلك على حساب اضعاف زعامة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي حل محل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، باعتباره زعيماً مريحاً جداً بالنسبة الى المصالح الاسرائيلية. ويرى هؤلاء الباحثون ان اسرائيل نفسها هي التي قضت على زعامته وأحرجته أمام شعبه حين لم تعطه أي انجاز، ولم تسهم حتى في تحسين مستوى معيشة الشعب الفلسطيني المحاصر والمحروم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي لم تقم أيضاً بازالة الحواجز، ولم تطلق سراح السجناء، ولم تفكك البؤر الاستيطانية، ولم تمنح عباس أية فرصة لأداء دور جدي في خطة «فك الارتباط» التي تمت بصورة آحادية الجانب ومن دون التشاور معه.
ورأى يسرائيل هرئيل، الرئيس الأسبق لمجلس المستوطنات اليهودية في الضفة والقطاع، ان حركة حماس انتصرت لأن الفلسطينيين اقتنعوا تماماً لأن كفاح هذه الحركة المسلح هو الذي دفع اسرائيل الى الانسحاب وهو الذي سيؤدي ايضاً الى انسحابات جديدة. واعتبر هرئيل ان الحركة حققت الفوز في معركتين بالغتي الأهمية: فهي انتصرت في حرب الاستشهاديين التي أدت الى ردع اسرائيل وتأديبها وارغامها على الانسحاب من قطاع غزة، كما انها انتصرت في تدمير الرؤية الصهيونية الأساسية التي كانت تقوم على الاستيطان الزاحف والمزدهر. وهكذا فالناخبون الفلسطينيون منحوا الثقة لحماس بسبب ارغامها الاسرائيليين على تنفيذ خطة فك الارتباط، وليس بسبب نفورهم واستيائهم من الفساد المزمن المستشري في مؤسسات فتح وأداتها وحسب. ورأى هرئيل ان الشعب الفلسطيني «اختار عن وعي طريق الدم والعرق والدموع من أجل استمرار حرب التحرير الفلسطينية»، واعتبر انه على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه هذا الشعب فإنه يرى هذه الطريق الشائكة طريقاً للأمل والأحلام.
ورأى آرييه شافيط، وهو أحد أبرز الباحثين والمعلقين في صحيفة «هآرتس»، ان انتصار حماس هو حدث تاريخي بكل المقاييس لسببين اساسيين: الاول لأنه أعاد اسرائيل ثلاثين عاماً الى الوراء، اي نحو الزمن الذي سبق المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية وهو زمن التشبث بحق عودة اللاجئين المشردين بشكل حقيقي والقضاء على دولة اسرائيل. والثاني لأنه أعاد عجلة الصراع الى أيام الرئيسين جمال عبدالناصر وأحمد الشقيري، أي أيام الصراع ذي الأبعاد القومية والدينية والحضارية «بين المؤمنين والكفار والمجاهدين والصليبيين» على حد تعبيره، حيث يتم التركيز على مصير المسجد الاقصى ومدينة القدس؛ ومثل هذا الواقع الجديد «يستوجب اجراء تغييرات ملحوظة في سياسة كل من تل أبيب وواشنطن، قبل أن يصل تأثير صعود حماس الى كل من عمان والقاهرة».
دوائر اليمين الاسرائيلي من جهتها حاولت الاستفادة من فوز حماس لعدة اعتبارات، اولاً: من خلال توظيف موقف دولي معادٍ للاسلاميين، ومن ثم تكريس مقولة عدم وجود شريك فلسطيني للسلام، وهذا يعني ايجاد المبررات الاضافية أمام الحكومة الاسرائيلية لكي تواصل فرض التسوية التي تراها مناسبة من جانب واحد، فتضم ما تريد وتترك ما تريد من أراضي الضفة الغربية، وثانياً: من خلال استدعاء المزيد من الضغوط الدولية على حماس، الامر الذي يضعها أمام خيارين بالغي الصعوبة وهما: إما الاستجابة لهذه الاعتبارات والضغوط وبالتالي التخلي عن ميثاقها الداعي الى تدمير اسرائيل والعمل وفقاً لاتفاقية اوسلو وخارطة الطريق، واما مواصلة التشبث برؤيتها، ما يعني اتاحة المزيد من الفرص أمام اسرائيل لكي تجني قدراً أوفر من التعاطف والتأييد الدولي لصالحها. ويرى اليمين الاسرائيلي ان مثل هذه السياسة سوف تحاصر حركة حماس وتحول مكسبها الانتخابي الباهر الى مأزق فلسطيني داخلي بالغ التعقيد ويعج بالتناقضات والصراعات الشخصية والخلافات بين الأجيال، الأمر الذي تجلى على سبيل المثال في الخلاف الذي نشب بين الحركة والرئيس الفلسطيني محمود عباس حول التفسير الدستوري لمبدأ فصل السلطات وتحديد المسؤوليات الحكومية والسيطرة على مؤسسات السلطة الفلسطينية المختلفة السياسية والأمنية والمالية والقضائية والاعلامية.
النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذا المشهد على الصعيد الاسرائيلي هي ان أجندة اسرائيل ما بعد فوز حماس، كانت وستبقى تركِّز على ادارة الصراع وليس على صناعة السلام. وبتعبير آخر، إن فوز حماس لم يغيِّر أي شيء في الاستراتيجيات أو التكتيكات الاسرائيلية والأمر الوحيد الذي تغير في نظر الاسرائيليين هو العامل المحرك للمشهد الفلسطيني لوحده. وقد يكون من قبيل السخرية ان هذا العامل بالذات، يمكنه، في نظر الاسرائيليين، ان يساهم في تبسيط الحيثيات والتحديات الناجمة عن ادارة الصراع بين الطرفين. أي ان اسرائيل ترى نفسها حالياً تواجه خصماً شفافاً وصريحاً، بخلاف حركة فتح، ولا توجد لديه أية نية في المواربة أو التمويه بشأن هدفه النهائي وهو القضاء على اسرائيل. ومن أجل مواجهة مثل هكذا عدو، ترى اسرائيل انها تواجه خيارين لا ثالث لهما وهما: إما استدراج حماس الى الفشل الذريع وفقدان صدقيتها في أعين الفلسطينيين، وإما إرغامها على تغيير هويتها، وليس سلوكها وحسب، وتحويلها بالتالي، أو تحويل فئات منها على الأقل لتصبح شريك حوار مقبولاً اسرائيلياً.
وبالنسبة الى اسرائيل فإن أقصر الطرق من أجل بلوغ هذه الأهداف انما يكمن في وقف أي شكل من أشكال الحوار أو المساعدة للسلطة الحماسية، وتعقيد الأمور بوجهها لجعلها تفشل فشلاً ذريعاً لجهة تنفيذ وعودها المزمنة بتحسين الأداء الحكومي في ما يتعلق بتوفير الأمن وتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين. وللأسف انه منذ تولي حركة حماس مقدرات الحكومة الفلسطينية والخلافات تتزايد مع مؤسسة الرئاسة بزعامة محمود عباس (ابو مازن) سواء في ما يخص الاستفتاء على عريضة السجناء أو على صعيد القضايا الأمنية، ما أدى الى صراعات حقيقية وصلت الى حد الاقتتال على الرغم من محدوديته. وهذا الصراع السياسي الأمني بين هنية وعباس أعطى الفرصة أمام العدو الاسرائيلي لكي يشن المزيد من عمليات ارهاب الدولة ضد الشعب الفلسطيني، ما ادى الى سقوط ضحايا بريئة كثيرة على شواطئ غزة وفي داخلها. وفي ظل انحياز السياسة الاميركية والدولية الى اسرائيل، فإن الوحدة الوطنية الفلسطينية تبقى الملاذ الأخير للشعب الفلسطيني من اجل حماية ما تبقى من حقوقه الوطنية المقدسة. ولا يخفى على أحد ان اسرائيل كانت وما تزال تتمنى التناحر الداخلي الفلسطيني الذي يوفر لها الفرصة الثمينة لتقول للعالم ان التفاوض السلمي لا يمكن حدوثه في ظل التناحر الفلسطيني، وهذا يعني استمرارها بايجاد الذرائع التي تخولها فرض الحل الآحادي الجانب. وقد يكون من باب المفارقة الصعبة التي تواجهها اسرائيل في هذا المجال انها لن تحصل على أية مكاسب الا من خلال المزيد من التضييق وزيادة حجم المعاناة على الشعب الفلسطيني، الا ان مثل هكذا تضييق ومعاناة سوف يعني تلقائياً أيضاً تحميل اسرائيل نفسها المزيد من المسؤولية المباشرة عما يحصل، وهذا سوف يؤدي بصورة انعكاسية الى ارتفاع أسهم حماس وتزايد شعبيتها.