- En
- Fr
- عربي
تراجع حزب العمل الإسرائيلي وتداعياته المحلية والاقليمية
حزب العمل الإسرائيلي (مفليغيت ها عفوداه) هو وريث حزب (مباي) (حزب عمال إسرائيل) الذي كان حزبا اشتراكياً صهيونياً، ينادي بالاقتصاد الموجه وإقامة المزارع الجماعية (كيبوتسات) وتأميم بعض المرافق و الخدمات العامة وتشجيع القطاع الخاص. وقد تمتع هذا الحزب بتقاليد ثابتة و مستقرة من الناحية التنظيمية، إذ اتسم بدقة التنظيم و المرونة والسيطرة المطلقة على أعضائه. كما أنه أقام علاقات متشابكة وقوية مع جميع الأجهزة والمؤسسات داخل الدولة، وذلك من خلال سيطرته على والكيبوتسات الهستدروت والجيش والوكالة اليهودية، فضلا عن علاقاته القوية مع دول الشرق والغرب .
وقد هيمن حزب المباي و من بعده المعراخ (الذي هو تحالف بين حزبي المباي والمبام عام 1969) ثم حزب العمل (عفوداه) على النشاط الصهيوني في فلسطين منذ العام 1930 وحتى وقت غير بعيد، فيما عدا فترات متقطعة، حكم فيها الليكود (الذي هو تكتل بين حزبي حيروت والليبراليين) منذ العام 1977 وحتى اليوم، كما وأن حزب العمل حكم أيضاَ من خلال الحكومات الائتلافية أو حكومات الوحدة الوطنية. وهو يعتبر الحزب المؤسس للكيان الصهيوني في فلسطين، حيث قاد عمليات جلب الجماعات اليهودية من دول العالم المختلفة، وعمل على توطينها، وكان له الفضل الأكبر في قيام الدولة وتعزيز أمنها وضمان تدفق المساعدات المادية والمعنوية لها، هذا بالإضافة إلى توجيهه نشاط المنظمات الصهيونية العسكرية المختلفة قبل عام 1948 وما بعده مثل الهاغاناه والبالماخ اللتين شكلتا نواة ما سمي جيش الدفاع الاسرائيلي (تساهال). والحزب هو الذي قاد أيضاَ عمليات التهجير والإبادة بحق الشعب الفلسطيني، وشن جل الحروب التوسعية ضد الدول العربية المجاورة ([1]).
وعلى الرغم من تاريخ الحزب المليء بكل صور المجازر والإرهاب والتنكيل والاغتصاب، فإنه يوصف خطأ بصورة الاعتدال لكونه يناور في طرح أو تبني بعض مشاريع الحلول الوسط والتسويات الإقليمية مع الفلسطينيين والعرب، والتي ليست في الواقع سوى مشاريع تخدير و تضليل، الهدف من ورائها كسب الوقت وترسيخ الأمر الواقع وإثارة الفتن والخلافات في الصفين العربي والفلسطيني.
لقد احتل حزب العمل الموقع المركزي بين اليسار الصهيوني والمجموعات السياسية الأخرى من المتدينين وممثلي اليمين، وبالتالي فإن جميع الحكومات الصهيونية التي شكلت في إسرائيل حتى العام ،1977 كان يتولاها الحزب بالتحالف مع الأحزاب الأخرى من مختلف ألوان الطيف السياسي المتوفرة في الكيان، والتي لم يكن خروج أحدها من الائتلافات يشكل أية معضلة بالنسبة إليه، وهو بقي صاحب الدور الأساس في تشكيل الائتلافات الحكومية حتى هزيمته المدوية أمام الليكود عام .1977 فما هي الخلفيات السياسية والاجتماعية والتنظيمية التي استنزفت هذا الحزب وجعلته فاقد المكانة وفاقد القوة؟! وما هي بالتالي تداعيات كل ذلك على الصعيدين المحلي والإقليمي؟! إن الجواب عن هذه الأسئلة من شأنه أن يسلط الضوء على العديد من القضايا الهامة التي لها دور بارز في صياغة القرار السياسي الاسرائيلي الذي يعاني مآزق كثيرة من الارتباك والتعقيد ويربك بالتالي قضايا التسوية على شتى المسارات.
1ـ المرحلة الحرجة بين العام 1967 ومطلع السبعينات:
لقد كانت شخصية الزعيم الصهيوني دافيد بن غوريون وشعبيته ونفوذ (المباي) في التجمع الاستيطاني اليهودي من أهم أسباب احتفاظ هذا الحزب بالسلطة طيلة ثلاثين عاما من الزمن. فقد كان بن غوريون بالنسبة للمهاجرين الوافدين رمز السلطة والنفوذ والانتصار، مما أضفى على مكانته هالة كبيرة، بحيث أصبح الولاء لبن غوريون يمثل الولاء للدولة. إلا أن هذه الهالة ما لبثت أن تبددت تدريجيا في أعقاب الخلافات الداخلية في الحزب ثم بعد ابتعاد بن غوريون عن القيادة والسلطة، ونشوء جيل جديد ابتعد عن أحلام الجيل السابق، ولم تؤثر فيه كثيراً دعاوى وادعاءات الطلائعية الصهيونية التي فقدت بريقها مع الوقت. وهذا هو واحد من الأسباب الكثيرة التي تفسر الانحسار النسبي والتراجع الدراماتيكي لهذا الحزب، والذي بلغ ذروته في الانهيار الكبير عام .1977
لقد تزعزعت الوحدة التنظيمية لحزب العمل بعد أن اتسعت قواعده وكبر حجم العضوية فيه، وأخذت وحدته الفكرية والتنظيمية في التراجع، وبدأت تظهر فيه الكتل والمعسكرات المختلفة ألتابعة لشخصيات مخضرمة أو فتية مثل ليفي أشكول وغولدامئير وزلمان شازار، وأيضا المجموعة الأصغر سناً مثل موشيه ديّان وشمعون بيريس وإسحاق رابين وحاييم بارليف، وهذه الكتل كانت تتصارع فيما بينها على خلفيات سياسية، وهنا نشأ ما يسمى صراع الحمائم والصقور في الحزب، أو على خلفيات شخصية تسعى لوراثة الجيل المؤسس.([2])
ولقد كانت قضية لافون التي انفجرت في مطلع الستينات أخطر أزمة يتعرض لها حزب المباي بعد قيام الدولة. ولافون كان في العشرينات قائدا لإحدى الحركات الشبابية. وقد تسلم وزارة الدفاع لعدة أشهر في حكومة موشيه شاريت التي شكلت عام ،1953 ثم استقال منها اثر فشل عملية أمنية ضد أهداف أميركية وروسية وبريطانية في مصر نفذها يهود مصريون لصالح الموساد الاسرائيلي وكان يرمي من ورائها إلى إفساد العلاقات الثنائية ما بين مصر عبد الناصر وهذه الدول، وجاءت الاستقالة تحت تأثير الضغوطات التي مارسها بن غوريون وأنصاره في الحزب حين اتهم لافون بتحمل المسؤولية بالفشل. الا أن لافون جمع أدلة وثائقية تنفي عنه هذه التهمة، مما شكل طعنة كبيرة في نزاهة بن غوريون، وشجع العديد من أصدقائه للمطالبة بتطبيق الديمقراطية في الحزب. وشكلت هذه الأزمة مع عوامل أخرى، الأرضية المناسبة لتصدع المباي وخروج حزب جديد منه اسمه (رافي) بزعامة بن غوريون نفسه. وتتابعت العوامل السلبية الواحدة تلوى الأخرى ما ادى الى تآكل متسارع في شعبية الحزب ومكانته الاجتماعية والسياسية وأبرز تلك العوامل:
أـ الفساد والفضائح المالية التي طالت عناصر قيادية في الحزب، وأوجدت انطباعا سيئاً لدى العامة وهشمت مثاليات الحزب. فقد ضبط أشير يا دلين متلبسا بفضيحة مالية أدخلته السجن لمدة خمس سنوات، وكان يتولى المسؤولية عن صندوق المرضى في الهستدروت([3]). ولحق به صديقه وزير الإسكان إبراهام عوفر الذي انتحر اثر فضيحة مالية أيضا. أما الطامة الكبرى فتمثلت في الفضيحة المالية التي تورطت بها زوجة رابين (بسبب فتح حساب بالعملة الصعبة في أحد البنوك الأميركية خلافاً لأنظمة وزارة المال) مما أجبر هذا الأخير على التنحي عن رئاسة لائحة المعراخ للكنيست وفتح المجال أمام خصمه بيريس لخلافته في زعامة الحزب.([4])
هذه الفضائح ظهرت في وقت كانت البلاد تعاني من صعوبات مالية واقتصادية سيئة، وفي وقت طلب من الإسرائيليين شد الحزام لتحمل ضرائب جديدة وثقيلة، إلى جانب انخفاض سعر العملة الإسرائيلية وتزايد البطالة. الأمر الذي وضع الأحزاب العمالية وجهاَ لوجه ضد رغبة العمال في تحسين أوضاعهم([5]).
ب ـ التطورات الأنفة الذكر أدت إلى تزايد القلق الاجتماعي والى خفض نسبة الهجرة من الخارج وتنامي النزوح من الداخل، وهي ترافقت مع انشقاق جماعة من حزب العمل شكلت حزبا جديدا هو حزب (داش) أو حزب الديمقراطية و التغيير الذي ما لبث أن انضم إلى معسكر الليكود المناؤى الذي اكتسب المزيد من النمو والنجاح.
ج ـ لقد تأثرت التركيبة السكانية في الكيان الصهيوني، تأثرا كبيرا بموجات القادمين الجدد من الوافدين من الأقطار الشرق أوسطية (الدول العربية وإيران والهند...) بحيث تكونت فجوة اجتماعية عميقة بين هؤلاء الذين يسمون باليهود الشرقيين (مزراحيم) وبين المهاجرين الجدد والقدامى من اليهود الغربيين أو الأشكنازيم، الذين كانوا يحتلون المراكز الاجتماعية والإدارية والمالية الأساسية في الدولة، بينما تم دفع اليهود الشرقيين ليكونوا في الدرجات السفلى من السلم الاجتماعي. يضاف الى ذلك الفوارق الملحوظة في نمط الحياة ومستوى التعليم وطريقة التفكير. وقد حصل هذا التغيير في الوقت الذي فقد فيه النظام الطلائعي للرواد وحركة الكيبوتسات بريقهما والهالة السحرية التي كانت لهما.([6])
د ـ إنه لمن دواعي السخرية أن تكون سياسة حكومات العمال الخاصة بجلب المهاجرين من دول الشرق الأوسط إلى إسرائيل في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، هي التي أنتجت التغييرات الأثنية والسياسية في المجتمع، الأمر الذي حول إسرائيل من كونها مجتمعا أوروبيا بصورة غالبة، الى مجتمع شرقي في غالبيته (60% من المجتمع الاسرائيلي آنذاك كانوا من اليهود العرب والإيرانيين والأتراك والأكراد والهنود...)([7]). وكان هؤلاء اليهود محافظين في غالبيتهم وغير متعلمين ومتمسكين بتعاليم دينهم، وهم صوّتوا لصالح العماليين لمدة جيل كامل إعرابا منهم عن الامتنان. لكن العماليين خذلوهم، وعاملوهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وقد شعر هؤلاء بالاغتراب أكثر فأكثر من جراء العلمانية الحادة للعماليين، فانتقلوا إلى حزب حيروت التصحيحي (أو تحالف الليكود بقيادة حيروت) وليس إلى الأحزاب الدينية، لأن هذه الأخيرة كان يسيطر عليها الحاخامات الأشكنازيون الاوروبيون.([8])
هذا الخليط الديموغرافي اللامتوازن بسبب الهجرات الشرقية، لم يغير فقط التوازن السياسي بين أحزاب إسرائيل ومدارسها الأيديولوجية، بل غير أيضاَ الطابع السياسي للدولة إذ أصبح غالبية الشباب الإسرائيلي في سن 18ـ20 سنة وعلى نحو متزايد في الجناح اليميني. وقد دعت هذه الأوضاع المستجدة كلاَ من الحزبين العماليين مباي وأحدوت ها عفوداه إلى التوحد داخل التجمع العمالي (معراخ)، وهذا يعني أن يخوض الحزبان سوية انتخابات الهستدروت والكنيست في قائمة واحدة، لمواجهة الأوضاع المستجدة.
هـ ـ ساهمت الصراعات الشخصية والمواقف الجدلية التي لا تنتهي بين قيادات المعسكرات في الحزب، في انخفاض شعبيته، خاصة بين معسكري رابين وبيريس. وقد كتب الصحافي بوعاز شابيرا عن هذا الموضوع فقال: (منذ مدة طويلة كفّت السياسة عن أن تكون حلبة سباق بين الأيديولوجيات، وتحولت إلى حلبة للسباقات الشخصية فقط. والساسة عندنا ينتهجون هذا النهج لأنه، في خاتمة المطاف، لا فارق بينهم. ويبدو أن الهوة الأيديولوجية غير عميقة، ليس فقط بين الأشخاص الأعضاء في الحزب ذاته، وإنما أيضاً بين الأحزاب ذاتها)([9]).
وكان عضو الكنيست موشيه شاحال قد حاول التنافس على رئاسة حزب العمل ضد كل من رابين وبيريس وقال: (يجب منع بيريس ورابين من تدمير الحزب. فكلاهما قد فات أوانه خيراً أم شراً، وعلى الحزب أن ينهمك أكثر فأكثر في المجال الأيديولوجي في مواجهة الليكود وبالانطلاق من ذلك يتعين انتخاب قيادة جديدة له)([10]). أما الصراع بين بيريس ورابين فكان يتمحور حسب رأي الصحافي دان مرغليت حول موضوع هام وأساسي وهو أن الأول يريد خوض المعركة تحت عنوان السلام في حين أن الثاني يعطي الامن موقع الأسبقية على السلام، فضلاً عن أنه شرط له([11]). ويضيف مرغليت أن رابين كان يطمح إلى حسم الصراع قريباً في حين أن بيريس كان يؤثر تأجيله. أما المعلق أ. شفايتسر فرأى أن الوصفة الأكيدة لبعث حزب العمل من جديد هي إيجاد زعيم، ولو من الصف الثاني، مقارنة مع بيريس ورابين، يؤمن بحزبه ومستقبله كحزب حاكم حقيقي، ويكون مستعداً لتكريس كل جهده في بنائه من جديد وفقاَ لطراز حزب مباي التاريخي([12]).
و ـ في العام 1973 استقالت غولدا مائيير من رئاسة الحكومة التي تولاها بعدها اسحق رابين. ولكن هذا الأخير ما لبث أن فقد المنصب بسبب الفضيحة المالية التي سببتها له زوجته كما سبقت الاشارة. وفي العام 1977 تولى شمعون بيريس زعامة حزب العمل بدلاَ من رابين. وفي حقبة السبعينات هذه، شهد الحزب انشقاقات مثل انشقاق حركة حقوق المواطن (راتس) عام 1973 ثم انشقاق حركة التغيير (شينوي) في العام نفسه وانسحاب مجموعة مائير عميت عام .1976 ثم ظهرت حركة (داش) ـ الديموقراطية و(التغيير) عام 1977 كتيار وسط أدى الى تراجع مواقع حزب العمل المتحالف مع حزب مبام ضمن التجمع (معراخ) مما مهد السبيل أمام إنهاكه واستنزافه وسقوطه أمام الليكود بقيادة مناحيم بيغن في وقت لاحق.
وقد أدى الصراع مع الليكود طيلة السنوات السبع التي قضاها حزب العمل في المعارضة، إلى استعادة تجميع قواه المفككة. وفي المعركة الانتخابية عام 1984 جرى تنافس هادئ ما بين شمعون بيرس الذي استطاع أن يحتفظ بدفة القيادة واسحق رابين الذي كان منافساً دائماً على زعامة الحزب واسحق نافون الذي كان قد ترأس الدولة. ولكن حدة الصراع مع الليكود دفعت هذه المنافسة الى الخلف وجعلت هؤلاء القادة يتوافقون على تسلم بيريس الزعامة على أن يكون نافون ثانياً ورابين ثالثاً في تراتبية تسلم المناصب الهامة.
ز ـ لقد ساهم التقصير الكبير (هامحدال) في العام 1973 والخسائر البشرية التي تكبدها الجيش الإسرائيلي في حرب تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، في سقوط هيبة العديد من القيادات في الحزب وفي إعطائه صورة الحزب الضعيف، خاصة بعد تزايد مؤيدي خط الحمائم داخله، والذي تجلى فيما يسمى وثيقة آرييه اليئاف التي تضمنت اقتراحاَ بأن تعلن إسرائيل (إن ما بين البحر والصحراء في أرض الأسباط الأثني عشر، يوجد مكان لدولتين مستقلتين تتمتعان بالسيادة، دولة إسرائيلية ودولة فلسطينية ـ أردنية، مع استعداد إسرائيل للاعتراف بحق تقرير المصير للعرب الفلسطينيين شريطة ألا يكون هذا الحق على حساب وجود إسرائيل و أمنها و سلامتها)([13]). كما جاء في الوثيقة أيضاَ اقتراح بإعادة سيناء إلى السيادة المصرية مع احتفاظ إسرائيل بمنطقة مضائق تيران، وكذلك إعادة أجزاء من هضبة الجولان لسوريا مع إقامة وجود استيطاني ودفاعي اسرائيلي دائم فيها. وأكدت الوثيقة أن القدس هي (العاصمة الخالدة لشعب إسرائيل)([14]).
ح ـ في هذا السياق كشفت صحيفة عال همشمار عن أن حزب العمل واجه أزمتين في الواقع لا أزمة واحدة فقط وهما: أزمة قيادة وأزمة نهج وعليه أن يحسم الأزمتين ([15]). وحسم أزمة النهج يتطلب ـ برأي الصحيفة ـ تحديد الفوارق بين حزب العمل وحزب الليكود في القضايا الأساسية الاجتماعية والسياسية. أما صحيفة هآرتس (1990/5/13) فرأت أن الحزب بحاجة لقيادة شابة تثبت قوتها وتوضح طريقها السياسي بما يفضي إلى تبني نهج يدعو بحزم إلى التخلي عن السيطرة على مليون ونصف مليون عربي. وأوضح وزير العلوم الأسبق عيزر وايزمان أنه ما كان لينتخب أياَ من الزعيمين بيريس ولا رابين وقال: (لو توجب علي اليوم أن أصوت لما كنت لأنتخب لا هذا ولا ذاك. إن سبب ما نحن عليه الآن هو المشاكسات المستمرة بينهما منذ 16 سنة. العالم يشتعل، الانتفاضة على بعد كيلو مترين منا، الجماهير العربية في إسرائيل ثائرة كالبركان في الخليل ووادي عاره، يجب الخروج بحل واضح)([16]).
2ـ مرحلة نهاية السبعينات و بداية الثمانينات : ترسخ الخلل في قوة الحزب
يحلل رئيس مركز الانتخابات في المعراخ في الثمانينات، حاييم بارليف، الأسباب التي أدت الى هبوط قوة الحزب على النحو التالي: (إنني أرى أن هناك أسباباً رئيسية بعضها ناتج عن الوضع الموضوعي، وبعضها ذاتي ... فمنذ حرب يوم الغفران (1973) أصبح الوضع الموضوعي صعباً جداً على جميع الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. والإسرائيلي العادي يكتشف كل صباح وضعاً مختلفاً فبعد 29 سنة من الاستقلال وبعد خمسة حروب، كنا نرغب أن يتركونا في النهاية نبني الدولة بهدوء، ولكن الواقع مختلف. فالدول العربية لا تتصرف كما كنا نرغب، والولايات المتحدة كذلك لا تتصرف حسب رغبتنا. كما أن الاقتصاد العالمي لا يدار حسب مشيئتنا والهجرة تقلصت والنزوح ازداد، وأصبح الجمهور أكثر نقداً. فالسلطة لم تعد سلطة، ولا يمكن الاعتماد على المؤتمنين على القطاعات المختلفة. أما الانضباط الداخلي فقد ضعف، وطبيعي أن يوجه اللوم إلى القيادة. والسبب الآخر الذاتي يتعلق بالحكم أو بالمؤسسة التي لم تسطع التغلب على الخلافات بين أعضائها. إن الخصومات والعلاقات الشخصية السيئة داخل الحكومة أصبحت حديث الجمهور ومركز اهتمامه. وأقصد مثلاَ العلاقات بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع وبين سكرتير عام الهستدروت ووزير المالية) ([17]).
كذلك فإن التفكك الأيديولوجي وفقدان الواقعية السياسية، والتي كانت سرّ قوة حزب العمل في الماضي، ساهما في سقوطه. وقد علق الأستاذ يرمياهو يوفال على ذلك بالقول: (إن حركة العمل لم تخطئ قط في الغوص في الرومانطيقية السياسية، فالأحلام لم تكن لديها أساساً للسياسة العملية، وإنما قامت بترجمتها للغة الواقع حسب الإمكانيات في الظروف الحقيقية. وفي سنوات حكم غولدا مائيير، بدأت حركة العمل تفقد لأول مرة صفة الواقعية السياسية وقد أصيبت الدولة بحالة من الوهن الذاتي وفقدان الشعور بالواقع، الأمر الذي انتهى بصدمة يوم الغفران ([18]). و لم يستيقظ حزب العمل من هذه الصدمة إلا في عام 1977 عندما خسر ولأول مرة سدة السلطة. ومنذ أن شكلت حكومة الليكود الأولى في ذلك العام بزعامة مناحيم بيغن، طفق العنف في المجتمع الإسرائيلي يزداد حدة، أولاً في الأراضي المحتلة، بين الفلسطينيين والجيش وبين الفلسطينيين والمستوطنين، ثم بعد عام ،1981 عندما شكلت حكومة بيغن الثانية. واتسمت حملة عام 1977 الانتخابية بقدر كبير من العنف وفاقتها في ذلك حملة عام .1981 فقد حطّم أنصار الليكود الاجتماعات السياسية لمرشحي حزب العمل، وأهانوا الذين يحضرونها. وكانت انتخابات 1984 أقل عنفاً بسبب اغتيال أحد أنصار حركة السلام الآن في المسيرة السلمية التي جرت عام 1983 احتجاجاً على غزو لبنان. وأعلن الرئيس حاييم هر تسوغ أنه قد يثبت أن العنف المادي واللفظي، وعدم التسامح والتعصب والتخلي عن القيم الديمقراطية تشكل خطراً أكبر من تهديد الأعداء.
وبلغت حملة العنف الكلامي بين الليكود والعمل ذروتها عام 1983 في أعقاب صدور التوصيات التي وضعتها لجنة كاهان بشأن التحقيق في مسؤولية الجيش الإسرائيلي عن مذابح صبرا وشاتيلا، الامر الذي فتح المجال أمام دخول حزب الليكود في منزلق من التراجع وأتاح الفرصة بالتالي أمام حزب العمل ليعاود التقاط أنفاسه من جديد، فيعود الى السلطة شريكا طيلة الثمانينات، ورئيساً في العام .1992
خلال هذه الفترة شارك حزب العمل مع حزب الليكود في حكومة وحدة وطنية عام 1984 سميت بحكومة الرأسين (بيريس شامير) وذلك في أعقاب الضربات العسكرية والمعنوية القاسية التي تلقاها جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء غزوه لبنان على أيدي رجال المقاومة، مما أجبر قيادات الحزبين الكبيرين الليكود والعمل على كبت خلافاتهما وصراعاتهما لصالح لفلفة الهزيمة التي لحقت بالنوايا الصهيونية التوسعية والإجرامية التي كان لا بدّ لها من غطاء سياسي كبير لسحبها والانسحاب معها من الأراضي اللبنانية المحتلّة في الجنوب. كما وأن حزب العمل شارك أيضا في حكومة وحدة أخرى عام 1988 ما لبثت أن انهارت في شهر آذار من العام 1990 بسبب الأزمة التي افتعلتها الأحزاب الدينية.
بالإضافة إلى ما تقدم شهد الحزب العديد من التصدعات والاستنزاف في قوته التمثيلية الشعبية والبرلمانية. ففي عام 1984 تفكك المعراخ (التجمع) وانسلخ حزب المبام عن حزب العمل مبرراً هذه الخطوة بصعوبة حل مشكلات البلد من خلال برنامج حكومة الوحدة الوطنية التي قيل عنها أنها حكومة الشلل الوطني، الامر ألذي تجسد في جمود (مسيرة السلام) وتدهور الأوضاع الاقتصادية. وانسحب من المعراخ أيضا يوسي ساريد زعيم حزب راتس (حقوق المواطن) احتجاجاً على حكومة الوحدة الوطنية.
في هذا السياق بدأت في حزب العمل عملية نقد ذاتي قاسية، فقد رأى أسحق رابين و مؤيدوه ان (الصبغة اليسارية) التي اكتسبها حزب العمل هي السبب الأساسي في تراجع شعبيته منذ عام ،1977 وان نزع هذه الصبغة هو ما سيعيد للحزب مكانته السابقة. وتوضيحا لذلك يقول: (لقد دفعنا كثيراً نحو اليسار ...نحن نتهم بأننا نتحول إلى ليكود رقم2 وأخشى ان نكون نتحول فعلا وأكثر مما يجب، إلى راتس رقم2)([19]). والتخلص من هذه الصيغة، بحسب وجهة نظر اسحق رابين، هو ما سيجلب مقترعين جدداً لصالح حزب العمل.
وتابع يقول: (علينا ان نفهم ان ناخبينا المحتملين موجودون عن يميننا. علينا أن نتحرر مرة وإلى الأبد، من الصورة الحمائمية الفلسطينية، التي ترتسم لنا بأكثر مما هو مكتوب في برنامجنا، حتى لو خسرنا مقعدين لراتس ومبام)([20]).
في مقابل ذلك رأى شمعون بيريس والمعسكر المؤيد له ان طريق الحزب إلى السلطة يمر عبر تأكيد الفوارق بينه وبين الليكود، وان مشاركته في حكومة واحدة مع الليكود (مثلما حصل ما بين 1984ـ1990 ) تساهم في طمس لونه السياسي. وقد وصف أحد المحللين الإسرائيليين الفارق بين مواقف الزعيمين من قضايا السياسة متعلقة بالتسوية على النحو التالي: سان رابين، بالرغم من امتناعه عن التقدم بمشروع شامل كمشروع آلون، فإنه يمثل في حزب العمل خط المقاربة الأمنية المتشددة، الذي صاغه جيل البالماخ... وهو يرفض التحرر من المواقف القديمة. أما بيريس الذي قدم في السابق عدة مشاريع وتخلى عنها كلها، فيمثل موقفاً براغماتياً مرناً، وأحياناً مداهناً. ان مواقفهما من منظمة التحرير الفلسطينية متشابهة على صعيد التصريحات، لكنها مختلفة على صعيد الأفعال. فرابين يعتبر المنظمة عدواً حقيقيا ويواصل العمل على تحييدها من دون ان ينجح في ذلك. بينما بيريس مستعد للتحدث مع المنظمة، بل ولقد فعل ذلك بطرائق غير مباشرة. وقد أوضح رابين أنه ينظر الى عملية السلام على أنها طويلة ربما لعشرات السنين، أي أنها لن تتم في عهده أو في ظل ولايته. أما بيريس فيبشر بعملية سياسية حقيقية تقاس بسنوات معدودة). ([21])
من ناحية أخرى رأى جاد يعقوبي (الوزير الأسبق من حزب العمل)، (أن على حزب العمل، ألا يكتفي فقط بحساب داخلي، أو بالجَلد الذاتي، بل عليه أن يوضح برنامجه السياسي بالتعاطي مع الظروف القائمة التي تؤكد أن شركاءنا هم الفلسطينيون فقط، وبالاستعداد لتقسيم البلاد بيننا وبينهم، للابتعاد عن قيام (ابارتهايد)، وعن تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية)([22]). وأضاف أن استمرار الوضع القائم يؤدي إلى مس إضافي بقدرة الحزب على إحداث تغيير على المستويين القومي والاجتماعي، وقد يؤدي أيضاَ إلى إنزال كارثة بالحزب.
3ـ دور الاحزاب الدينية
على أرضية هذه الاختلافات القاسية في الرأي داخل حزب العمل، أدى التقارب في الوجهة السياسية وفي موازين القوى بين الحزبين الكبيرين في انتخابات عام 1988 ـ العمل (39 مقعداً ) و الليكود (40 مقعداً) ـ إلى تعاظم نفوذ الأحزاب الدينية وممارستها أكثر فأكثر لكل أنواع المساومة والابتزاز تجاه الطرفين، فلم تلتزم الأحزاب الدينية (شاس والمفدال ويهودية التوراة ) بمواقف ثابتة وواضحة تجاه أي من الحزبين، بل راحت تقترب من حزب العمل حيناً ومن الليكود أحياناً أخرى، وكان معيارها الثابت دائماً هو كيفية الحصول على قدر أكبر من المكاسب والمنافع والاموال. وكانت انتقادات المتدينين لحزب العمل بنوع خاص، والتي كان لها تأثير كبير على تراجع الحزب واستنزاف قواه، تتمثل في نقاط عديدة أبرزها ما يلي: ([23])
1ـ اقتراب حزب العمل من اليسار العلماني (راتس والمبام ) مما يهدد مصالح المتدينين الكامنة فيما يسمى اتفاقية الوضع الراهن التي تضمن للمتدينين خصوصيات معينة من ضمنها الإعفاء من الخدمة العسكرية.
2ـ تصالح حزب العمل مع اليهود الإصلاحيين لضمان دعمهم في الولايات المتحدة، الأمر الذي أضر بمكانة اليهود الأرثوذوكس ونفوذهم داخل إسرائيل خصوصاً بالنسبة للحاخامية الرئيسية.
3ـ حزب العمل متهم بعلمنة الدولة والقضاء على إجراءات تقرها اتفاقية الوضع الراهن مثل احترام السبت والتعليم الديني ومكانة المحاكم الدينية والحاخامية الرئيسية وما الى ذلك.
4ـ إن حزب العمل يقبل بالحلول الوسط بخصوص الاستيطان في الضفة الغربية أو (يهودا والسامرة) في المصطلح الديني اليهودي وهذا يشكل عبثاً (بحق تاريخي) لا مجال للتنازل فيه.
وهكذا يتضح أن الصهيونية الدينية بدأت تشعر بتزايد قوتها ونفوذها منذ نهاية الثمانينات، وبالتالي بدأت تكتسب الخبرة في المناورة والابتزاز واستغلال النظام الانتخابي في أي شكل كان، مما جعلها تأخذ دور إبرة الميزان في اللعبة السياسية الداخلية، كما وأن الحاخامات اكتسبوا بدورهم نفوذاً كبيراً في الشارع الإسرائيلي، وتبوأت الأحزاب والحركات الدينية الصهيونية موقعا مرموقاً في عملية إدارة وصنع القرار السياسي، سواء من خلال مشاركتها في الائتلافات الحكومية، أم من خلال تأثيرها على سياسات الحكومة.
لقد بدأ حاخامات الصهيونية الدينية ومؤسساتها في تحدي قادة الدولة، وقلصوا عليهم سبل المناورة السياسية، بحيث وصل هذا التحدي إلى ذروته عام 1995 عندما أصدر 1500 حاخاماً من الحاخامية الرئيسية فتوى تحرم إخلاء القواعد العسكرية الموجودة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتسليمها إلى غير اليهود (غوييم) وطالبت الجنود بعدم إطاعة أوامر الانسحاب وذلك رداَ على اتفاق أوسلو، وذهب بعض الحاخامين إلى أبعد من ذلك عندما رأوا أن الحكـومة نفـسها ـ برئاسة رابين ـ تفتقد الشرعية، وبالتالي فإن أوامر الجيش المؤتمر بها غير شرعية أيضاَ.
إلى جانب هذا ارتفعت أصوات عدد من الحاخامات، التابعين للصهيونية الدينية، تطالب بالانفصال عن العلمانيين لأنهم يرفضون التراث والتقاليد اليهودية ويظهرون العداوة للمستوطنين الأصوليين، ويعلنون أن الدولة لكل مواطنيها وليست (للشعب اليهودي) فقط([24]).و قد دعا أحد الحاخامات الأصوليين إلى تغيير النشيد الوطني للدولة واستبداله بالمزمور رقم 26 من مزامير التوراة. بل وراح بعض الكنس يغير في الدعاء في الصلاة لحفظ زعماء الدولة ليصبح الدعاء بأن يحفظ الله اليهود من زعماء الدولة ([25]). و من خلال هذه الأجواء من التطرف والتشنج والنفوذ المتزايد للأحزاب الدينية خرج قاتل رابين مزودا بالسلاح والفتوى الشرعية ليضع علامة فارقة في مسيرة التراجع الطويلة التي شهدها حزب العمل منذ العام ،1973 ولما تنته بعد.
لقد اتهم الأصوليون اليهود رابين بالخيانة وبتصفية الدولة، ووصفوا اتفاقية أوسلو بأنها كابوس على الأمة اليهودية وأنها تفرض وصاية (الإرهابي عرفات على إسرائيل) وبالتالي فإن رابين خائن يستحق القتل. وهكذا أيضا تم تصوير رابين في صورة نازي تارة وفي صورة كلب تارة أخرى، أو صورته وهو يعتمر الكوفية الفلسطينية في ظل شعارات (أيام الحكومة معدودة وكذلك أيام رئيسها أيضا)، و(بالدم والنار سنطرد رابين) و(إلى المتاريس لنوقف تصفية دولة إسرائيل)([26]) وأيضا (كل الأراضي لنا ولنا لوحدنا ولا يمكن أن نتقاسمها مع أحد وليس هناك أرض عربية).
باختصار يمكن القول أن حقبة الثمانينات شهدت تراجعاً ملحوظاً في مكانة ونفوذ حزب العمل السياسي، الأمر الذي استصحب معه تداعيات سلبية كثيرة محلياً واقليمياً، خاصة لجهة تنامي القوى الدينية واليمينية الشوفينية على حسابه، و ذلك في سياق متغيرات اجتماعية وفكرية وسياسية دراماتيكية، تفاقمت منذ تسلم مناحيم بيغن السلطة عام 1977 ولغاية اعتزاله عام .1983 وقد عبر المؤرخ التاريخي شاؤول فريدلندر عن هذه التغيرات السلبية بقوله إن عهد بيغن احدث (تغيرات جوهرية في مساري حياتنا الاجتماعية و السياسية، إذ اصبح قسم منها يشكل اتجاهات لن يكون في الإمكان تغييرها أو إلغائها. ولهذا السبب لم ينته عهده، بل إن عهد حكومة بيغين كان ولا يزال يشكل تحولاً حاسماً في تاريخ الدولة). وقد لخّص هذا المؤرخ تأثيرات عهد بيغين على المجتمع الإسرائيلي والاتجاهات السياسية التي تبلورت في أعقابه بالأمور التالية:
1ـ لقد اخرج بيغين إلى السطح اتجاهات كانت مطمورة بعمق في المجتمع الإسرائيلي (مثل: الاستقطاب الطائفي، والأسلوب السياسي الديماغوجي)، وعمل على استغلالها لصالحه وضد مصلحة حزب العمل وقياداته.
2ـ أعطى بيغن مسألة ما يسمى (ارض إسرائيل الكاملة) دفعاً جديداً، فتحولت إلى تيار جارف ومحور رائد لكل الفكر السياسي للحكم في إسرائيل، وهذا ما تناقض كلياً مع محاولات حزب العمل للتوصل إلى تسويات على قاعدة الحل الإقليمي الوسط، وشكل حاجزاً دينياً وعاطفياً وعقيدياً يضع الحزب باستمرار في موضع الاتهام والتكفير وخيانة الشعب اليهودي.
3ـ أوجدت حرب لبنان رواسب من عدم الثقة لدى الجمهور الإسرائيلي من مدنيين وعسكريين بنوايا السلطة السياسية وقياداتها، خاصة لجهة معالجة ابرز القضايا حساسية وحيوية والمرتبطة بالحرب والسلام مع الفلسطينيين والعرب، مما انعكس سلباً على الحزبين الكبيرين معا، الليكود والعمل.
4ـ اصبح الجمهور الإسرائيلي أكثر تعصبا من الناحيتين القومية والدينية وبالتالي أكثر عدوانية وأقل استعدادا للحلول الوسط الإقليمية، الأمر الذي انعكس سلبا بنسبة أكبر على حزب العمل منه على الأحزاب الأخرى. والضربة القاسية التي تلقاها حزب الليكود في مطلع الثمانينات اثر فشل غزو لبنان والتداعيات الاقتصادية والسياسية التي رافقته، لم تنفع حزب العمل كثيرا بل هي أفادت الأحزاب الأصولية الدينية القطاعية مثل حزب شاس و يهودية التوراة، وهذا يعود إلى أن العديد من الأطراف الحزبية والسياسية، ولا سيما أحزاب اليهود الشرقيين، كانت تتحين الفرصة للانتقام من حزب العمل جراء ما ألحقه بها من إجحاف كبير و تاريخي على امتداد سنوات حكمه الطويلة. والاعتذار الذي حاول إيهودا باراك تقديمه في هذا المجال في وقت لاحق لم يترك أي أثر إيجابي في هذا المجال.
5ـ فترة التسعينات : تقلباتها وتداعياتها السلبية على حزب العمل
في أعقاب أزمة 1990 بين حزبي العمل والليكود ضمن إطار حكومة الوحدة الثانية التي تشكلت منذ العام ،1988 وفشل الأول في تشكيل حكومة برئاسة زعيم الحزب شمعون بيريس، اتجه حزب العمل إلى تبني الأسلوب الأميركي في اختيار زعيمه، والقائمة الحزبية المرشحة للانتخابات، و هو ما يعرف باسم primaris أي الانتخابات الأولية داخل الحزب. وقد أدت الانتخابات الداخلية التي جرت في شباط 1992 إلى فوز اسحق رابين بزعامة الحزب. وعكس برنامج الحزب السياسي المقدم عشية انتخابات الكنيست عام ،1992 التغيرات التي طرأت على مواقفه إزاء النزاع العربي ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، وذلك من خلال النص على الاعتراف بالحقوق الشرعية للفلسطينيين وإلغاء القانون الذي يحظر الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية والسعي إلى حل مشكلة الجولان مقابل تأمين حاجات إسرائيل الأمنية.
وقد جاء هذا التغيير كثمرة للصراع بين الصقور والحمائم داخل الحزب والذي انتهى لصالح الفريق المعتدل، والذي يضم جماعة الشباب أمثال أبراهام بورغ وحاييم رامون ويوسي بيلن وعوزي يرعام وموشيه شاحال والعربيين نواف مصالحه وصالح طريف ([27]). وقد شكل هؤلاء قوة ضغط على زعيم الحزب رابين لحمله على دفع مسار التسوية مع الدول العربية المعنية إلى الأمام. وفي أعقاب انتصار حزب العمل عام 1992 وعودته الى السلطة، واصل الحزب ما كان حزب الليكود قد بدأه عام 1990 من مفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين وكل من سوريا ولبنان والأردن على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338 برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي (ثم روسيا الاتحادية). ولكن إذ ادعى حزب العمل أنه يتطلع إلى تحقيق السلام والصلح مع العرب ـ طوال فترة المفاوضات وحتى وقت لاحق ـ فإن واقع الحال يؤكد على انه عمليا لم يتزحزح قيد أنملة عن ثوابت الحركة الصهيونية والأهداف الحيوية العليا للدولة، والخروج من غزة وبعض المدن والقرى في الضفة الغربية المحتلة بموجب اتفاقية أوسلو لم يكن أكثر من إعادة انتشار لقوات الاحتلال خارج المناطق العربية المأهولة مع بقاء السيطرة الحديدية على مداخل ومخارج الضفة والقطاع، وإحلال السلطة الوطنية الفلسطينية محل الإدارة العسكرية لم يكن أكثر من مشروع يرمي إلى تحويل (الحكم الذاتي) إلى مشروع (للقمع الذاتي) بأيد فلسطينية.
إلا أن العديد من القيادات والجماهير الشعبية لم تستوعب فحوى ومغزى أوسلو، فانبرى من داخل حزب العمل فريق يقوده أبناء الجيل الوسط الذين دخلوا الحياة السياسية من بوابة المناصب العسكرية العليا (من أمثال أفيغدور كهلاني الذي انشق عن الحزب وأسس ما سمي بحزب الطريق الثالث بالإضافة أوري أور وافرايم سنيه وأيهود باراك وبنيامين بن اليعزر). وتجدر الإشارة إلى أن كهلاني انضم إلى الائتلاف الليكودي بزعامة نتنياهو عام 1996 وتولى منصب وزير الامن الداخلي فيه.
إزاء كل هذه السلبيات التي رافقت مسيرة حزب العمل، لا بد من طرح السؤال الضروري حول استعادة هذا الحزب مكانته وانتصاره في انتخابات عام ،1992 وحول العوامل والأسباب التي ساعدته على تعويم نفسه. والجواب عن هذا السؤال يكمن في النقاط والاعتبارات التالية:
أ ـ تعفن الليكود من جراء السنين الطويلة له في الحكم. فالليكود حسب رأي الصحافي الإسرائيلي يوئيل ماركوس ([28]) ـ (على غرار حزب مباي في حينه، تعفن و فقد كل صلة بالواقع) والعفونة في الليكود بدأت مع اعتزال مناحيم بيغن للحياة السياسية، حيث لم يكن في الليكود من يمكنه أن يملأ الفراغ الذي تركه على صعيد الحزب الذي تحول إلى (تعاونية) من الانتهازيين.
ب ـ السبب الثاني يتعلق بالأداء الوظيفي. ففي الأحد عشر عاما (1977ــ1988) تورطت حكومات الليكود في حرب لبنان وفي أزمة الأسهم المصرفية وتكلفتها الباهظة وبالتضخم المالي. وهذه ألاخفاقات الثلاثة ما كان ليتسنى إصلاحها لولا مشاركة وزراء من حزب العمل في حكومة الوحدة الوطنية عام .1984 في المقابل لم تقم حكومة شامير بأي شيء يمكن أن يسجل لصالحها، لا على صعيد التشريعات الأساسية، ولا على صعيد عملية التسوية في المنطقة، ولا على صعيد الاستقلال الاقتصادي.
ج ـ إخفاق الليكود على الصعيد الاجتماعي، إذ خان جمهوره الذي رفعه إلى سدة السلطة من الطوائف الشرقية وكذلك المهاجرين الجدد حيث تتفشى البطالة في اوساط الطرفين.
د ـ انعدام القدرة لدى الليكود على منح الشعب أية رؤية أو رسالة أو أي وعد للمستقبل، بل المزيد من الدماء والدموع والشقاء.
هـ ـ تصلب الليكود وارتكازه على الأيديولوجيا المجردة (أرض إسرائيل الكاملة) وعرقلة عملية السلام والخلافات بين قادته، ولا سيما الوسط المتردد الذي يقترع عادة للطرف الأقوى والذي أدرك في حينه أن الولايات المتحدة الاميركية تفضل حزب العمل بعد قضية ضمانات القروض وارباكاتها ما بين شامير وبوش.
و ـ شخصية اسحق رابين المعروف بصداقته للأميركيين منذ كان سفيراً لإسرائيل في واشنطن، وماضيه العسكري والسياسي ومواقفه المتشددة تجاه قضايا التسوية وهو المعتبر (صقراً أمنياً) إضافة إلى مرونته وواقعيته، مما اكسبه من يسمون بأصحاب الأصوات العائمة في الجمهور عامة وحتى من جمهور الليكود نفسه.
ز ـ الانتفاضة الفلسطينية التي أربكت الحكومة الإسرائيلية العاجزة عن وقفها ولا سيما العمليات الإستشهادية مما ساهم بتفاقم أجواء القلق واليأس لدى الإسرائيليين الذين فضلوا رابين على شامير.
ح ـ المتغيرات الإقليمية والدولية المتمثلة في انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية و(رعب الصواريخ) العراقية وانعقاد مؤتمر مدريد، مما فتح باب الأمل لدى الإسرائيليين بعقد سلام مع العرب بأقل قدر من التنازلات الممكنة ([29]).
ط ـ لقد بالغ حزب الليكود في ادعاء الولاء التلقائي والمفروغ منه لابناء الطوائف الشرقية الى جانبه، خاصة بعد ان أثر على ولائهم هذا موت بيغن والاستخفاف بمكانة دافيد ليفي المغربي الأصل داخل الليكود.
ي ـ خضوع السياسة الإسرائيلية الداخلية لمسار من (ألامركة)، سواء من حيث التركيز على الكاريزما التي يتمتع بها المرشحون شخصياً، أو من حيث الانتخابات التمهيدية الداخلية، والتأييد الشعبي لتغيير طريقة الانتخابات، وتبني أسلوب الانتخابات المباشرة، وهي قضايا تمتع فيها حزب العمل بتفوق كبير على حزب الليكود.
ك ـ وحدة حزب العمل والإصلاح الديموقراطي الذي اجتازه، واتحاد أحزاب اليسار الصهيوني في حزب واحد هو حزب ميرتس مقابل المعسكرات في الليكود والانقسامات داخله وداخل حزب اليمين.
ل ـ التأثير البالغ للأصوات العربية التي أعطت العمل أكثر بكثير مما أعطت الليكود.
م ـ تقريرا مراقب الدولة ومحافظ بنك إسرائيل، اللذان وجها انتقادات قاتلة لأداء حكومة الليكود بزعامة شامير، وللفساد الذي استشرى في أدوات السلطة وللسياسات الاقتصادية الفاشلة للحكومة([30]).
هذه الأسباب والاعتبارات جميعها خدمت حزب العمل لفترة قصيرة من الزمن ولكنها ما لبثت أن ارتدت عليه بصورة كارثية مع عملية اغتيال زعيم الحزب ورئيس الحكومة رابين في الرابع من تشرين الثاني ،1995 علماً بأن رابين لم يكن يسعى إلا إلى شق الصف العربي وتصعيد الخلافات في داخله، من طريق الوعد بإحراز تقدم على أحد المسارات (الحكم الذاتي الفلسطيني ـ أوسلو) وإهمال مسارات أخرى خصوصاً في لبنان والجولان. والهدف من هذا كله لم يكن في أي وقت من الأوقات إحراز السلام الحقيقي القائم على العدل كما يطالب العرب، بل فقط إنهاك الموقف العربي من الداخل وإثارة النعرات والتناقضات إلى حد الاقتتال الأهلي، وهو ما يعتبر مرتكزاً أساسياً للسياسة الصهيونية البراغماتية العمالية بنوع خاص، وعنصراً أساسياً من عناصر الأمن القومي الإسرائيلي، وأحد ضمانات الهيمنة الإسرائيلية والصهيونية العالمية على المنطقة بدولها وشعوبها. وهذا ما تجلى في رفض تنفيذ القرارات الدولية رقم 242 و338 و425 وسواها إلا بصورة استنسابية ومجزوءة وتأجيل بت القضايا الجوهرية إلى فترات زمنية مفتوحة وغير محددة، للإبقاء على باب الرفض مفتوحا أمام الانتهازية الصهيونية التي تعرف كيف تستغل الظروف وتستفيد من تناقضات مصالح الأنظمة خدمة لمشروعها غير المحدود.
على الرغم من كل (الدجل السلمي) الذي تعاطاه حزب العمل بأسلوبه الانتهازي المزري منذ مشروع آلون عام 1968 وحتى اتفاق أوسلو عام ،1993 فإن دعاة الصهيونية الدينية في إسرائيل، شرعوا على امتداد الثمانينات والتسعينات، في المطالبة بفك عرى التحالف مع الدولة العلمانية، الأمر الذي تمثل في ما بينّاه سابقا من تحدي زعماء الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية وفي إصدار الفتاوى الحاخامية برفض إطاعة الجنود المتدينين قادتهم في الجيش، وصولا إلى إصدار فتوى بقتل رابين نفسه اثر اتهامه بالخيانة العظمى، و هنا تقاطع صراع المتدينين والعلمانيين بصراع دعاة التسوية مع العرب ودعاة (إسرائيل الكبرى).
وفي هذا السياق أعلن عضو الكنيست عن حزب الليكود بنيامين نتنياهو (إن رابين لا يحب بلاده ويعتبر إسرائيل وطناً له، إنه يبيع وطنه كسلعة). وشارك نتنياهو أيضا في تظاهرة رفع خلالها نعش أسود كتب عليه (رابين يدفن الصهيونية)، وشّبه نتنياهو أساليب رابين في إدارة سياسة إسرائيل بأساليب تشاوشيسكو في تشيكوسلوفاكيا ([31]). وقبل شهر واحد من مصرعه، تعرض رابين، أثناء حضوره اجتماعا للمهاجرين الأنكلوساكسون الجدد في معهد للرياضة في تل أبيب، لسلسة من الشتائم والتهديدات، من بينها التهديد الذي وجهه إليه حاخام الجامعة العبرية بالقدس، مما اضطر رابين الى قطع خطابه ومغادرة المكان، وأثناء الفترة ذاتها طالب ارييل شارون بمحاكمة كل من رابين وبيريس معاً([32]). ومما قاله: (إن رابين وبيريس وكل وزراء الحكومة وموظفيها سيحاكمون يوما ما على انصياعهم لأعدائنا وعلى الذل الذي يلحقوه بالشعب)([33]). و شكلت أقوال رئيس الدولة عيزر وايزمان تهديداً لمصداقية سياسات الحكومة، و مما قاله (إن رابين لا يعرف جيداً ما يفعله، وانه يتسرع كثيرا... وغير حذر. ينبغي وقف مسيرة السلام وإعادة تقييم الوضع... إن اتفاقية أوسلو لا قيمة لها لأنها لم تقر إلا بغالبية صوت واحد). كما جاءت تصرفاته اللاحقة لمصلحة تيار اليمين، فقد رفض مقابلة بضعة آلاف من المستوطنين الذين قرروا مغادرة الاراضي المحتلة الى داخل الخط الأخضر بمساعدة حركة (السلام الآن)، في الوقت الذي دأب على زيادة المستوطنات ومقابلة معارضي التسوية ([34]).
لقد أدت تصفية رابين جسدياً وتهميش بيريس سياسياً، إلى فتح المجال أمام الديماغوجي المشهود له بقدراته الكلامية والإعلانية بنيامين نتنياهو، لتولي سدة السلطة كزعيم لليكود ثم كرئيس للحكومة الإسرائيلية. و بذلك تحرر الليكود مجدداً من تهمة البراغماتية التي فرضتها عليه ظروف السلطة وموجباتها، وعاد كحركة أيديولوجية واضحة المعالم وحيدة الاتجاه، يمينية، قومية، شوفينية، بحيث قيل أن الليكود عاد كحركة حيروت الأصلية مثلما أسسها بيغن وأوصى بها جابوتنسكي ـ حزب متجانس من الناحيتين الأيديولوجية والتنظيمية على السواء([35]). وقد استفاد نتنياهو من ضعف بيريس الناجم عن افتقاره العمق العسكري ومن تردده واتهامه بالحمائمية، وبأنه الفاشل الأكبر وهو الذي عجز عن تشكيل حكومة عام 1988 وهُزم في زعامة حزبه أمام رابين عام 1992 مثلما هزم أمامه أيضا عامي 1974 و.1977 كما واستفاد كذلك من التعديل في قانون الانتخابات الذي تم تطبيقه عام 1996 والذي فصل السباق من أجل رئاسة الوزراء عن تنافس الأحزاب على مقاعد الكنيست. وهذا التعديل ساهم في زيادة سلطات رئيس الحكومة وتقليص القوة التفاوضية للأحزاب الصغيرة، إنما أدى أيضا إلى تقليص مفاجئ وبارز في نسبة التصويت للحزبين الكبيرين: الليكود والعمل على 44 مقعداً وعلى 34 مقعداً عام ،1996 و26 مقعداً عام 1999. أما الليكود فحصل تباعاً على 42 و26 و19 مقعداً في السنوات ذاتها.
وقد انبثقت هذه النتائج الدراماتيكية عن النمو الهائل في عدد الأحزاب القطاعية والطائفية المتمثلة في الكنيست، والتي يعكس تكاثرها، أكثر من أي برلمان سابق، حجم الانقسامات والشرذمة داخل المجتمع الاسرائيلي، ومن هذه الأحزاب حزب شينوي بزعامة الصحافي السابق تومي لابيد (6مقاعد) وحزب الوسط بزعامة اسحق موردخاي (6مقاعد) وحزب اسرائيل بيتنا بزعامة افيغدور ليبرمان (الذراع اليميني السابق لنتنياهو ) (4مقاعد) وحزب شعب واحد بزعامة عمير بيريس (رئيس حركة النقابات المهنية والعمالية) و(حزب بلد) الخاص بالعرب الموجودين داخل الكيان بزعامة عزمي بشارة (مقعدان )([36]).
هكذا إذن تمكن نتنياهو في انتخابات 29 أيار 1996 من إلحاق الهزيمة المذلة بشمعون بيريس الذي فشل في استغلال موجة التعاطف الشعبي مع حزب العمل في أعقاب اغتيال رابين. وكانت النتائج متقاربة جداً، ولكنها مع ذلك شكلت صدمة لزعامة بيريس أولاً ولحزب العمل عموماً ثانياً.
و كان من بين الاسباب التي أدت إلى هذه النتائج الكارثية على حزب العمل ما يلي:
أ ـ انحسار التأييد لاتفاقات أوسلو والسياسة (السلمية) المنسوبة إلى بيريس من جهة الرأي العام الإسرائيلي، وذلك بشكل خاص بسبب العمليات الإستشهادية التي نفذها المقاومون الممنوعون من حقوقهم الشرعية في كل من القدس وتل أبيب وعسقلان في شهري شباط وآذار من عام .1996
ب ـ عودة المهاجرين السوفيات للتصويت لصالح نتنياهو والليكود إذ صوّت ثلثاهم له، فيما صوت الثلث فقط لبيريس، وذلك بسبب عدم تحقيق حزب العمل مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية.
ج ـ ثبات أغلبية الناخبين من أبناء الطوائف الشرقية والمتدينين والطبقة الفقيرة وسكان البلدات الهامشية والصغيرة على التصويت لصالح نتنياهو واليمين القومي الديني.
د ـ إحجام فئة من العرب (نحو عشرة آلاف صوت) عن التصويت لصالح بيريس واقتراع قسم منهم (5،2%) لصالح نتنياهو، احتجاجا على سياسة بيريس المتطرفة عبر إغلاق المناطق وحصارها وتجويعها، وأيضا احتجاجا على ارتكاب مجزرة قانا في نيسان 1996 أثناء العدوان على لبنان تحت اسم (عناقيد الغضب)([37]).
د ـ الأخطاء التي ارتكبها بيريس أثناء حملته الانتخابية التي كانت دعايتها دفاعية وسلبية، إذ اكتفت بشعار (إسرائيل قوية مع بيريس) بينما كانت الدعاية الانتخابية لنتنياهو هجومية، وقد صورت بيريس بأنه (سوف يقسم القدس وسيسيء الى أمن إسرائيل وسيضع الأمن في يد عرفات) كما قال له نتنياهو في المناظرة التلفزيونية التي جرت قبل يوم من الانتخابات عام 1996([38]).
هـ ـ النظام الانتخابي الجديد الذي مكن الإسرائيليين من الاقتراع المباشر لرئيس الوزراء والذي حصر المنافسة الشخصية بين رجلين فقط هما بيريس ونتنياهو، وهذا ما جعل مؤيدي الأحزاب، الصغيرة منها على الأخص، يصوتون لأحد المرشحين وفقا لاقتناعاتهم، دون أن يؤثر ذلك في تصويتهم لمرشحي أحزابهم في الانتخابات البرلمانية (الكنيست) على غرار النظام الانتخابي السابق.
و ـ نجاح حزب الفريق الثالث الذي انشق عن حزب العمل في جذب أصوات ناخبين متشددين كانوا يعتبرون من مؤيدي حزب العمل سابقا ([39]).
ز ـ أنانية بيريس وشخصانيته التي جعلته يخوض انتخابات عام 1996 وهو يخطط لانتخابات عام 2000 إذ رفض الإعلان عن عزمه تعيين ايهود باراك وزيراً للدفاع وحاييم رامون وزيراً للخارجية، خوفاً من منافسة الرجلين له في انتخابات العام،2000 إذ كان ذلك الإعلان سيطمئن الناخبين المترددين من الوسط، لوجود شخصية أمنية في منصب وزير الدفاع على غرار اسحق رابين.
ح ـ وضع نحو 70 ألف ناخب يهودي بطاقة بيضاء، و هو ما مثل احتجاجاً يهوديا على سياسة بيريس. وقد أظهرت النتائج فيما بعد أن الوسط اليهودي أعطى نتنياهو نحو 55،5% من الأصوات مقابل 44،3% لبيريس. أما الوسط العربي فأعطى بيريس 94،3% من الأصوات مقابل 5،2% لنتنياهو.
إلا أن السياسة المتطرفة والمتعنتة والمذبذبة لنتنياهو، أدت إلى جمود عملية التسوية على جميع المسارات وإلى فتور ظاهر في العلاقات الإسرائيلية الاميركية خصوصاً على ضوء تهديد نتنياهو بإحراق واشنطن من خلفية الصلف والثقة المبالغ بها في النفس. كما أدت السياسات المغالية في الانفاق على المستوطنات ولاسيما في الأماكن ذات الحساسية والإشكالية الفائقة مثلما حصل في جبل أبو غنيم في القدس، بالإضافة الى طبيعة تركيبة الإئتلاف الحكومي الخاضع لابتزاز الأحزاب الدينية واليمينية الشوفينية، إلى حصول ركود اقتصادي وعدم استقرار سياسي خلال ولاية نتنياهو التي شهدت فضائح مالية وقانونية كثيرة ناهيك عن الفضائح الأخلاقية المتعلقة بسلوك نتنياهو نفسه. وقد تجمعت كل هذه العوامل السلبية على امتداد ولاية نتنياهو ما بين حزيران 1996 وحزيران 1999 وتقاطعت مع اشتداد حدة الخلافات داخل الحكومة كما في داخل حزب الليكود، والتي توجت بانسحابات من الحزب واستقالات من الحكومة، الأمر الذي أرغم الكنيست على حل نفسه في كانون الثاني 1999 والدعوة الى انتخابات مبكرة مزدوجة للكنيست ولمنصب رئاسة الوزراء. وقد فاز باراك على منافسه نتنياهو من الدورة الأولى للانتخابات المباشرة لرئاسة الوزراء بفارق 12،16% من الأصوات مستفيدا من دعم العرب واليهود الروس وبعض اليهود الشرقيين المؤيدين لحزب غيشر بزعامة دافيد ليفي، بالإضافة إلى المتدينين من حزب ميماد المعتدل والمؤتلف مع حزب العمل ضمن ما سمي قائمة (إسرائيل واحدة).
الجدير بالملاحظة هنا هو أنه بالرغم من فوز باراك على نتنياهو فإن كلاً الحزبين (العمل والليكود) قد خسرا في انتخابات الكنيست عددا من مقاعدهما، ومُني الليكود بنوع خاص بهزيمة ساحقة.
إلا أن باراك لم يتمكن من تشكيل ائتلاف منتظم ومتوافق، بل ان ائتلافه الحكومي ضم ست كتل انتخابية غير متجانسة بل متعارضة سياسياً واجتماعياً مثل إسرائيل في الهجرة وحزب المفدال المعارضان للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام ،1967 ولإزالة أي مستوطنة منها، وحركة شاس الدينية المتشددة والتي نالت لوحدها 17 مقعدا في الكنيستش مما جعلها ثالث حزب من حيث القوة التمثيلية في إسرائيل.
لقد أثبت باراك بعد انتخابه رئيسا لوزراء إسرائيل خلفاً لنتنياهو انه لا يقل تصلبا وتعنتا عن هذا الأخير على جميع المسارات ولا سيما المسار الفلسطيني حيث طالب بثمن تبادلي لقاء أي إعادة انتشار، وكذلك فعل أيضا على المسارين السوري واللبناني، حيث رفض ما سمي بوديعة رابين على المسار السوري، وحاول عبثا الحصول من لبنان على تنازلات أمنية، الأمر الذي حمل الكاتب الإسرائيلي المعروف يوئيل ماركوس في صحيفة هآرتس على إعطائه لقب (باراكياهو)([40]) باعتباره نموذجاً مستنسخاً عن نتنياهو في عناده وتصلبه.
وكشفت الصحف الإسرائيلية خلال المفاوضات على تعديل اتفاق واي ريفر والجدول الزمني لتنفيذه، أن ايهود باراك الذي عارض اتفاق (أوسلو) عام 1995 عندما كان وزيراً في حكومة رابين، لا يزال من المنطلق نفسه يرفض التنازل عن الأراضي الفلسطينية في المرحلة الانتقالية، و يرى أن أي انسحاب أو إعادة انتشار يجب أن ترتبط بتنازلات يقدمها الفلسطينيون في مسائل الوضع النهائي كالقدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه. وقد علق الكاتب في صحيفة هآرتس جدعون ليفي على مواقف باراك هذه بالقول: (كلما انكشفت الملامح السياسية التفصيلية لباراك أكثر، وضح الشبه بينه وبين من يفترض أن يكون خصمه، بنيامين نتنياهو... فهو استخرج من هوة النسيان مشروع آلون... وقدمه بصفته برنامجه الأساسي. انتفاضة، أوسلو، لم يتغير شيء تحت شمس باراك. مشروع أكل الدهر علية وشرب، ولم يقبله في أي وقت من الأوقات، أي طرف عربي، هو البرنامج السياسي البديل من برنامج نتنياهو... ومع بديل كهذا من يحتاج حقاً إلى تغيير في السلطة؟!)([41]). وهو على الرغم من موافقته المبدئية أثناء مؤتمر حزب العمل السادس عام 1997 على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، إلا أنه عاد فاقترح كونفدرالية إسرائيلية ـ أردنية ـ فلسطينية معتبراً أن ذلك هو أفضل من دولة فلسطينية مستقلة.
على خلفية ما تقدم تجدر الملاحظة بأنه على الرغم من الانتصار الشخصي الذي أحرزه باراك على نتنياهو في انتخابات عام ،1999 إلا أن حزب العمل لم يقترب من الحصول على أغلبية كلية في الكنيست. وتقدم باراك الكاسح باثنتي عشرة نقطة في سباقه الى رئاسة الحكومة، لم يحفظ لقائمة ترشيحه إلى الكنيست، التي حظيت بمجرد ثلث الأصوات التي أعطيت لزعيمها، سوى الفوز بـ23 مقعداً في المجلس التشريعي (الكنيست) المؤلف من 120 عضواً. ولم يمثل الاقتراع في عام 1999 تحولا كبيرا وسريعا للرأي العام، وهذا ما عكسته بصورة اوضح حقيقة أن أحزاب ائتلاف نتنياهو المهزومة قد فازت بـ60 مقعداً. وهكذا تبيّن أن الانحياز إلى باراك لم يكن أكثر من رفض لنتنياهو وأسلوب حكومته المراوغ، ولا يمثل تخليا عن أيديولوجيا جناح اليمين الذي يمثله.([42]) وفي هذا السياق يرى اليهود الشوفينيون، المغالون في القومية، والأصوليون المتدينون، أن الطموح إلى بسط الحكم اليهودي على سيناء وأجزاء من لبنان ومعظم الضفة الشرقية للأردن يجب ألا ينسى، وقد يمسي ذات يوم ملائماً من الناحية السياسية. لكن في غضون ذلك، يمكن تأجيل العمل المباشر لتحقيق هذه الأهداف في محاولة لتعزيز الحكم اليهودي غرب الأردن في الضفة الغربية([43]). ويعتقد الكثيرون من الأصوليين والمغالين في القومية أن لليهود المخلصين لما يسمى (ارض إسرائيل) الحق في مقاومة الحكومة الإسرائيلية المنتخبة وحتى إطاحتها ان هي وافقت على التخلي للحكم العربي عن أجزاء من (أرض إسرائيل) وترتبط ارتباطا وثيقا بهذه النظرية التوسعية النظرة القائلة إن السلام مع الفلسطينيين والعالم العربي مستحيل، وان على إسرائيل الاستعداد للحرب، التي تنبع ضرورتها، مهما بدت مواقع التفاوض الفلسطينية معتدلة، من عدم إتمام المهمة الصهيونية. وبالتالي فإن أية تنازلات إقليمية تقدم ثمناً للسلام إنما هي عمل أحمق([44]).
على هذا الأساس قيل أن وصول شارون إلى السلطة على أنقاض باراك لم يكن لبراعة شارون نفسه، ولكن لفشل باراك في أن يكون حاسما في تحقيق سياساته التي وعد بها، وعدم حسمه لأمره أثناء مفاوضات التسوية في كامب ديفيد.([45]) وكان باراك قد وصل الى الحد الأدنى الذي تراه إسرائيل اليمينية المتطرفة كخط أحمر للتسوية، بصرف النظر عن المرجعيات والوثائق المتفق عليها من قبل وهذا ما سمي بأسلوب الإعاقة والتهرب (Stalling Tactis) حتى يصل بالمفاوضات الى ما يرجوه. وهكذا صاحب عملية التسوية الجارية ببطء، التراجع عن بعض ما كان قد اتفق عليه من قبل، وتم تاجيل إجراءات كان يجب على اسرائيل تنفيذها ضمن اوقات محددة ولم تتم. وبرزت عادة اعادة التفاوض حول الاتفاقيات الموقعة وتجزئتها، الأمر الذي كشف ضعف باراك وحزبه امام اشتراطات اليمين القومي والديني، كما وكشف مدى الاعاقة التي يعاني منها باراك بسبب هذه الاشتراطات والقيود، مما أدى الى جمود العمل السياسي كلياً والى فشل الثلاثي: باراك ـ كلينتون ـ عرفات في تحريك الوضع قيد أنملة. وهذا العجز أدى الى سقوط باراك واعتزاله والى فشل كلينتون وخروج عرفات بخفي حنين من كل هذه السنوات العجاف المليئة بالتضحيات الدامية والمماحكات السياسية العقيمة.
4-باراك و التوازن في السلبية بين العمل والليكود:
لقد أثبت ايهود باراك الذي يعني اسمه البرق، أنه يستحق هذا الاسم اذ أنه صعد كالبرق ثم اختفى كالبرق أيضاً. فلقد شهدت مسيرته السياسية بعض النجاحات بتحقيق الانسحاب من لبنان وتوقيع اتفاقية واي بلانتايشن في شرم الشيخ بتاريخ 4/9/1999 وتوقيع اتفاقية التبادل الديبلوماسي مع موريتانيا في 28/10/1999 وتعزيز العلاقات مع مصر والأردن، وشهدت مسيرته على الصعيد الداخلي طرح ما يسمى بالثورة المدنية لتعزيز الطابع العلماني للدولة.
إلا أن مناورات باراك السياسية ما لبثت أن انكشفت للجميع حين عاد وأكد لاءاته الثلاث: لا عودة إلى حدود عام ،1967 لا عودة للاجئين الفلسطينيين، لا تقسيم للقدس. وقد كشفت أبواب الموازنة التي أعدتها حكومته لعام 2001 أن هذه الحكومة لم تغير سياسة نتنياهو الاستيطانية، فقد رصد فيها مبلغ 1.2 مليار شيكل جديد (حوالي 300 مليون دولار) للاستيطان، وهو مبلغ قريب جداً من المبلغ الذي كان رصده سلفه نتنياهو وقدره 1.5 مليار شيكل جديد في موازنة عام 1999 للغرض ذاته. وأنشأ باراك خلال فترة حكمه 2830 وحدة سكنية في مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة، بلغت نسبتها 16.7% من مجموع ما تم بناؤه خلال سبع سنوات منذ اتفاق أوسلو والتي بلغت 16900 وحدة سكنية.([46])
وبالإضافة إلى ذلك صوّت باراك مع المعارضة اليمنية بتاريخ 27/11/2000 على قانونين أساسيين يضعان قيوداً على حرية المفاوض الإسرائيلي بشأن مستقبل القدس واللاجئين.
إلى جانب هذه المواقف اليمينية البارزة والمتصلبة والتي تحول دون تميّز العمل عن الليكود، واجه باراك العديد من نقاط الفشل أبرزها انه فشل:
1ـ في الوصول إلى اتفاق مع لبنان وسوريا يسمح له بالانسحاب من جنوب لبنان ويحافظ على كرامة الجيش الإسرائيلي ويضمن الأمن لشمالي إسرائيل.
2ـ في الإفراج عن الجنود الإسرائيليين الذين أسرهم حزب الله في مزارع شبعا المحتلة.
3ـ في تحقيق أي اختراق حقيقي على المسار الفلسطيني وصولاً إلى كامب ديفيد الثانية.
4ـ في منع نشوب انتفاضة الأقصى.
5ـ في وقف تردي العلاقات المتوترة، داخل المجتمع الإسرائيلي وخاصة بين الفلسطينيين واليهود مما أدى الى سقوط 13 شهيدا عربيا من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام .1948
6ـ في تجسيد تفاهم شرم الشيخ الداعي إلى وقف الاشتباكات بين الفلسطينيين والقوات المسلحة الإسرائيلية.
7ـ في منع انعقاد مؤتمر القمة العربي في القاهرة بتاريخ 21/10/.2000
8ـ في عجز تكتل حزب (إسرائيل واحدة) (الذي يضم حزب العمل وحزب ميماد الديني وحزب غيشر) الذي يقوده باراك نفسه، عن تسويق أي اتفاق مع الفلسطينيين داخل المجتمع الإسرائيلي المائل الى التطرف.
وإزاء عجزه هذا، وقع باراك في الفخ الذي وقع فيه نتنياهو من قبل، فتكاثرت الدعوات إلى إسقاط حكومته العاجزة في أوساط متعددة بما فيها أوساط حزبه. ولم يجد باراك إزاء كل ذلك سوى الاستقالة من رئاسة الوزراء، مصحوباً باتهامه بالأنانية والتآمر لقطع الطريق على إعادة ترشيح نتنياهو الذي كان يعتزم خوض المعركة على منصب رئاسة الوزراء. وفي سباقه للمناورة على الوقت اقترح باراك تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسته ولكن الاقتراح سقط، ولم يتبق أمامه سوى خيار إنجاز اتفاق سريع وطارئ مع الفلسطينيين يطلب الثقة على أساسه من الجمهور في استفتاء شعبي، متجاوزاً سائر الأحزاب والكنيست. أما الخيار الثاني الذي كان متاحا أمامه فهو الدخول في منافسة مع مرشح الليكود آرييل شارون على الرغم من تفوق الأخير عليه في استطلاعات الرأي المتكررة. وعلى الرغم من التنازلات الكبيرة ـ المزعومة ـ بالمعيار الإسرائيلي، التي قدمتها حكومته للفلسطينيين في كامب ديفيد الثانية بغرض الوصول الى (صفقة العمر) بإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الى الأبد، فإن الفلسطينيين كشفوا ألاعيبه ورفضوا بهلوانياته السياسية المفضوحة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، مارس باراك ضغوطا على الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والدول العربية لإقناع الفلسطينيين بالعودة إلى محادثات جديدة في واشنطن على مستوى المفاوضين. وكانت نتيجتها تقديم كلينتون اقتراحاته التي تلاها بتاريخ 23/12/2000 على الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي شفهياً طالباً منهما الموافقة عليها قبل تقديم أي تفسير أو إيضاح من طرفه. إلا أن الفلسطينيين أدركوا ما يحاك لهم من فخ خطير، فامتنعوا عن قبول هذه المقترحات كأساس لحل نهائي قبل استكناه مضمونها وتفاصيلها وإزالة الغموض عن صياغتها، وهم الذين اكتووا بنار تفاصيل اتفاق أوسلو. وهكذا أقفلت الدائرة على باراك الذي وجد نفسه عند نقطة الصفر في مواجهته مع شارون.
من هنا انهار الائتلاف الحكومي على رأس باراك خصوصا لجهة تصادم المصالح المتعارضة بين حزبي شاس والمفدال من ناحية وحزب ميرتس العلماني اليساري من ناحية اخرى بشأن الخلاف حول مسيرة التسوية. وتبين على ضوء الابتزاز المالي والسياسي لكل من حزب شاس اليهودي الشرقي والمستوطنين المدعومين من حزب المفدال والليكود، وفشل جهود باراك لضبط السلوك الحزبي داخل حزبه وائتلافه (اسرائيل واحدة)، مدى هشاشة التوليفة الحزبية القائمة. وساهم فشل قمة كامب ديفيد ونشوب انتفاضة الاقصى، في اقصاء باراك وائتلافه وخسارة حزب العمل فرصة النهوض من جديد لأمد غير محدود.
5-ملاحظات ختامية:
لقد انتهز الإرهابي العتيق آرييل شارون كل هذه السلبيات التي وقع فيها باراك ونتنياهو، والأجواء الشوفينية المتطرفة في صفوف الشعب الإسرائيلي، ليحرز انتصاراً منقطع النظير في تاريخ الكيان الصهيوني كزعيم لحزب الليكود وكرئيس للحكومة الإسرائيلية دون منازع، في شهر شباط،2001 وذلك بعد أن فجر انتفاضة الأقصى وتسبب بجريان أنهار من الدماء الفلسطينية التي ما تزال تنزف كل يوم، من دون أن يتمكن أي طرف من الأطراف المعنية محلياً أو اقليمياً او دولياً من أن تكون له الكلمة الفاعلة في وضع النقاط على حروف التسوية المعطلة بفعل الأطماع الإسرائيلية.
والجدير بالذكر ان الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة لرئاسة الوزراء سجلت اقل معدل للمشاركة من قبل الناخبين تشهده إسرائيل منذ تأسيسها، إذ لم يمارس حق الانتخاب سوى 62.28% من مجموع أصحاب حق الاقتراع. في حين كانت النسبة في انتخابات عام 1999 قد وصلت إلى 78.8%.
وتعود هذه الظاهرة إلى عدة عوامل أهمها مقاطعة بعض الجماعات للانتخابات مثل العرب الذين شاركوا بنسبة 35% فقط واليهود الروس بنسبة 31% بالإضافة إلى تراجع مشاركة الوسط واليسار([47]). كما وانها تعود أيضا إلى تصاعد وتيرة صراع الأقطاب داخل الحزبين الكبيرين. وساعد النظام الانتخابي المزدوج في احداث مزيد من الاستقطاب الإثني والطائفي والسياسي في المجتمع الإسرائيلي، مما أدى إلى تكاثر أعداد الأحزاب الصغيرة والمتوسطة على حساب الحزبين الكبيرين، ناهيك عن تلاشي الفوارق الأيدلوجية والاستراتيجية السياسية بين هذين الحزبين، مما أدى إلى تراجع أعداد المنتسبين الجدد إليهما وتزايد أعداد المستقيلين منهما ضمن أجواء من الخيبة والمرارة.
وقد عبّر الكثيرون أيضا عن احتجاجهم وعدم رضاهم عن سياسات المرشحين، باراك وشارون معاً، من خلال وضع بطاقات بيضاء في صناديق الاقتراع.
وفي هذا السياق عبّر يوسي ساريد زعيم حزب ميرتس عن المعضلة الانتخابية بقوله: (مثل الكثيرين منكم، أنا أريد أن أعاقب باراك، ولكن انتخاب شارون سيكون عقابا مبالغاً فيه). وهكذا تبين أن المرشحين باراك وشارون ليسا أفضل ما يمكن الحصول عليه، واختيار أي منهما يتطلب مخاطرة كبيرة. فباراك يمثل التنازلات المبالغ فيها والتناقض في السياسة الداخلية، في حين أن شارون يمثل القوة المبالغ فيها وانحيازه الى اليمين مهما كان متطرفا.
لقد خيب باراك أثناء فترة حكمه القصيرة آمال اليهود الروس الذين كانت لهم الكلمة الحاسمة في انتخابات عام 1992 وانتصار رابين. وفي حين أن 94% من هؤلاء شاركوا في انتخابات عام 1999 فإن نسبة لا تتجاوز 65% منهم شاركت في انتخابات عام ،2001 و هؤلاء محبطون من باراك لكنهم لا يرغبون في شارون. وترجع أسباب خسارة باراك لليهود الروس إلى السياسات التي انتهجها داخليا وخارجيا. ففي الداخل رضخ باراك لضغوط الأحزاب الدينية مما أغضب الكثير من اليهود الروس الليبراليين. وفي الخارج ظهر باراك أنه يبالغ في التنازلات مثل إعلانه الاستعداد للانسحاب من الجولان و من جنوب لبنان و موافقته على التنازل عن جزء من القدس و96% من الضفة الغربية بالإضافة إلى إزالة 109 مستوطنات!
وفي حين أعطى عرب إسرائيل 95% من أصواتهم لباراك عام 1999 فإنهم لم يعطوه في شباط 2001 سوى 18% لتكون هذه هي المقاطعة الكبرى من قبل العرب لحزب العمل منذ العام .1948
وقد أتت هذه المقاطعة، التي ساهمت بنسبة كبيرة في تدهورسمعة باراك وشعبيته بصورة مذلة ومهينة أمام شارون، كرد فعل على أحداث تشرين الأول والسياسات القمعية الدموية التي تبناها ضد عرب الداخل، مما أدى الى مصرع 13 متظاهراً كانوا يحتجون على قتل إخوانهم وأقربائهم المشاركين في انتفاضة الأقصى التي أتت احتجاجاً على تدنيس شارون لحرم المسجد القدسي في حركة استفزازية ترمي إلى إثارة النعرات والتهييج الأثني اليهودي ضد العرب، الأمر الذي سهّل على شارون الفوز بالضربة القاضية على باراك عندما حصل على 62،5% من إجمالي الأصوات مقابل 37،4% لصالح باراك، وهي نسبة لم تسجل قط في أية انتخابات إسرائيلية على الإطلاق. وهذا السقوط المهين لباراك شكل سبباً مباشراً لتنحيته عن زعامة حزب العمل وعن عضوية الكنيست، الأمر الذي فتح المجال أمام منافسات لا تنتهي بين قيادات ثانوية وضعيفة في حزب العمل، تدعي لنفسها أحقية قيادة الحزب من دون جدارة. والخلاف على نتائج الانتخابات الداخلية في الحزب بين أبراهام بورغ وبنيامين بن اليعيزر إنما يمثل هذه الحالة من الميوعة والفوضى وفقدان الاعتبار لهذا الحزب.
ويمكن القول أنه بعد أن بدأ باراك حكمه بجمع معظم التيارات الحزبية والسياسية إلى جانبه، فإنه انتهى وقد خسر معظم هذه التيارات، وكانت الخسارة الفادحة هي فقدانه مؤيدي حزبه التقليدين من العرب واليسار، الى الحد الذي تسبب في إحداث أزمة حادة داخل الحزب أدت إلى إسقاطه عن زعامته.
وحالياً ينخرط حزب العمل في حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها آرييل شارون، من خلال التفكير بأن هذه الحكومة ستكون مجرد مرحلة انتقالية ومؤقتة، إذ أن الاعتقاد السائد في هذا المجال هو أن حزب الليكود غير قادر على قيادة إسرائيل نحو أي اتجاه، كما وأن حزب العمل أيضا غير قادر على إسقاط حزب الليكود. وبالتالي جاءت حكومة الوحدة والمشاركة فيها من منطلق اللاخيار. ومع ذلك وجد قسم لا يستهان به من أعضاء الكنيست العماليين أنفسهم في موقع الاعتراض على حكومة الوحدة، سواء لأسباب مبدئية أو لاسباب شخصية. أما شمعون بيريس الذي يتولى منصب وزير الخارجية في حكومة شارون، فرأى أن الجمهور يريد اليمين في الحكومة لكنه يريد سياسة يسارية. إلا أن الأحداث أثبتت أن زعماء حزب العمل المنضوين في حكومة شارون قد تحولوا إلى أضحوكة، وكثيرا ما عانى بيريس من الإهانات من جانب اليمين في وقت كان بنيامين بن اليعيزر، وزير الدفاع، يرتدي زي اليمين لحماية مكانه ومكانته.
وفي الوقت الذي تتعاظم الأصوات داخل حزب العمل لمطالبة بيريس بالاستقالة وبانسحاب الحزب كله من الحكومة، يحاول عدد من المقربين منه الترويج لمشروع آخر معاكس تماما لمعرفة إمكانية تعزيز التحالف بين بيريس وشارون لدرجة احتمال خوض المعركة الانتخابية المقبلة في قائمة واحدة. هذا في حين يخسر بيريس تدريجيا من مكانته داخل حزبه، إذ يسود الشعور بان بقاءه في الحكومة ناجم عن حساباته الشخصية للبقاء في منصب وزير الخارجية وانه في سبيل ذلك مستعد للتغطية على جرائم شارون وأخطائه السياسية والعسكرية.
وهكذا تترسخ أزمة حزب العمل الداخلية، ليس كأزمة زعامة شخصية فحسب بل أيضا كأزمة نهج سياسي من الدرجة الأولى، حيث افتقد الحزب طعمه ونكهته ورائحته على جميع الأصعدة الفكرية والسياسية والاقتصادية، وهو من أجل ذلك فشل حتى الآن في بلورة مركز استقطاب ذي صدقية. والحزب حتى عهد باراك كان يرتكز على (قضية السلام) ولكنه حسبما تبدّى لاحقاً، فشل في ذلك فشلاً ذريعاً. وهذا ما دفع بعض قادته إلى القول (إن الحزب قد تحطم تماما)([48]).
و يرى هؤلاء، ومن بينهم شلومو بن عامي ويوسي بيلين، أن الخطوة الاولى لإعادة بناء الذات في الحزب تكمن في العمل كمعارضة جدية للخط الذي يمثله شارون. ويقول هؤلاء بالتالي بوجوب إظهار فشل شارون للجمهور الإسرائيلي بدلاً من التستر عليه، إلى جانب ضرورة الاستفادة من أخطاء الماضي لاعادة بلورة الخط السياسي الواضح والحقيقي لحزب العمل ولا سيما بالنسبة لقضيتين أساسيتين يجري الخلاف بشأنهما وهما: قضية السعي لإيجاد تسوية تاريخية معقولة لمشكلة العلاقات الجيوسياسية مع الشعب الفلسطيني، وهي قضية يحاول اليمين المتطرف عرقلتها ومنع حصولها، وقضية نوعية ومستوى العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، التي لا يتحسس منها اليمين ويبدي الاستعداد لارتكاب حماقات في صددها، في حين يبدي حزب العمل قدراً اكبر من الحرص والمداراة بشأنها ويراهن عليها لبناء آماله للمستقبل.
[1] لمزيد من التفاصيل في هذا الشأن أنظر أسعد رزوق ـ نظرة في الأحزاب الإسرائيلية (مركز الأبحاث. منظمة التحرير الفلسطينية ـ بيروت 1966ـ ص23ـ34). وأيضاَ كتاب هاني عبد الله ـ الأحزاب السياسية في إسرائيل ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ بيروت 1981 ـ وأيضا حبيب قهوجي ـ الأحزاب الإسرائيلية والحركات السياسية في الكيان الصهيوني ـ مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية ـ دمشق ص121 وما بعدها.
[2] أنظر حبيب قهوجي ـ الأحزاب الإسرائيلية ـ مصدر سابق ص .124
[3] نرمين غوانمة ـ إسرائيل ـ الأحزاب الإسرائيلية وتطلعاتها ـ الدار المتحدة للنشر ص .282
[4] هاني عبد الله ـ الأحزاب السياسية في إسرائيل ـ ص .173
[5] نرمين غوانمة ـ الأحزاب السياسية ـ مصدر سابق ص .282
[6] حبيب قهوجي ـ الأحزاب الإسرائيلية ـ مصدر سابق ص 127.
[7] مايكل جانسن ـ التنافر في صهيون ـ ترجمة كمال السيد ـ مؤسسة الأبحاث العربية ص.40
[8] مايكل جانسن ـ التنافر في صهيون ـ مصدر سابق ص .41
[9] هآرتس 1/6/.1990
[10] هآرتس 11/5/.1990
[11] هآرتس 11/5/.1990
[12] هآرتس 14/ 5/.1990
[13] عبد الفتاح محمد ماضي ـ الدين والسياسة في إسرائيل ـ مكتبة مدبولي ـ الطبعة الأولى 1999 ص .144
[14] المصدر نفسه.
[15] عال همشار 28/5/.1990
[16] عال همشار 28/5/.1990
[17] الأسباب الرئيسية لسقوط حزب العمل ـ إسرائيليات ـ مجلة شؤون فلسطينية ـ العددان 68ـ69 تموز وآب 1977 ص .276
[18] الأسباب الرئيسية لسقوط حزب العمل ـ المصدر السابق ص .389
[19] دافار 24/4/1989 ـ (حركة راتس بزعامة يوسي ساريد هي حركة يسارية تقول بضرورة الإسراع في التوصل الى حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي).
[20] المصدر السابق
[21] روبيك روزنتال ـ (الحسم) ـ عال همشار ـ الملحق الأسبوعي 17/4/.1990 وانظر أيضا مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 3 صيف 1990 ص 200 وما بعدها.
[22] دافار 20/ 5/1990 وأيضا الملف رقم 75 ـ المجلد السابع ـ حزيران/يونيو .1990
[23] انظر في هذا الشأن تفصيلياً ـ رشاد عبد الله الشامي ـ القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة ـ سلسلة عالم المعرفة ـ رقم 186 ـ ص 229ـ230 ـ وأيضا ص 215 الفصل الثالث ـ الأحزاب الدينية في إسرائيل من المساومة إلى الابتزاز.
[24] في هذا المجال تجدر الإشارة إلى التصريحات التي أدلى بها رابين والتي سخر فيها من قول الحاخامات بأن التوراة هي بمثابة سند تمليك الهي للشعب اليهودي، وإن حسابات الأرض هي حسابات سياسية واستراتيجية من منطلق فكره العلماني.
[25] جعفر هادي حسن ـ1500 حاخام يصدرون فتوى تثير الانقسام في إسرائيل ـ صحيفة الحياة 14ـ15 أيلول .1995
[26] آمنون كابليوك ـ حلقات من كتابه ـ الحياة 24/7/.1996
[27] عبد الفتاح محمد ماضي ـ الدين والسياسة في إسرائيل ـ مصدر سابق ص .145
[28] هآرتس 4/6/1992 ـ وأيضا مجلة شؤون فلسطينية ـ حزيران ـ تموز/يوليو 1992 العددان 131 و232 ص .140
[29] سمير صراص وخالد عايد ـ وثاثق تأليف الحكومة الجديدة ونتائج انتخابات الكنيست ـ مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 11 ـ بيروت صيف 1992 ص 147ـ.151
[30] مجلة شؤون فلسطينية آب ـ ايلول 1992 العدادان 233ـ234 ص 34 و.35
[31] آمنون كابليوك ـ رابين ـ اغتيال سياسي هآرتس 25/7/1996 وكذلك انظر عبد الفتاح ماضي ـ الدين والسياسة ـ مصدر سابق ص .484
[32] المصدر نفسه.
[33] المصدر نفسه.
[34] المصدر نفسه.
[35] هآرتس 18/5/.1993
[36] جوئيل بيترز و بيكي كوك ـ مختارات إسرائيلية ـ دار الأهرام ـ الرقم 57 ـ حكومة إسرائيل الجديدة ص.15
[37] أحمد خليفة ـ الانتخابات الإسرائيلية ـ النتائج من زاوية الوضع السياسي الداخلي ـ مجلة الدراسات الفلسطينية ـ العدد 27 (بيروت صيف 1996) ص14ـ20
[38] بن كسبيت وحنان كريستال وريلا كافير ـ صحيفة الاتحاد ـ الحلقتان 15ـ16 ـ أبو ظبي 6و7 أيلول ،1998 مقال بعنوان الانتحار ـ ترجمة غسان محمد.
[39] معن أحمد الحلقي ـ حزب العمل في المعارضة ـ مجلة الأرض للدراسات الفلسطينية العدد 4 دمشق نيسان 1997 ص 64ـ.96
[40] هآرتس 6/8/.1999
[41] جدعون ليفي ـ مع بديل كهذا ـ هآرتس 6/10/.1996
[42] نور الدين مصالحة ـ إسرائيل الكبرى والفلسطينيون ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ الطبعة الأولى بيروت 2001 ص.290
[43] المصدر نفسه ص .291
[44] المصدر السابق.
[45] أحمد عبد الحليم ـ الدلالات الاستراتيجية لوصول شارون إلى رئاسة الوزراء ـ السياسة الدولية العدد 144 نيسان 2001 ص .226
[46] جيروزاليم بوست 2000/11/27.
[47] نانيس مصطفى الانتخابات الإسرائيلية ـ جدل السياسة والثقافة ـ السياسة الدولية العدد 144 ـ ص.105
[48] السفير 24/10/2001 ـ حزب العمل الإسرائيلي ـ الحطام السياسي ـ حلمي موسى . وانظر أيضا صحيفة الشرق الأوسط ـ نظير مجلّي ـ 2001/11/29.