- En
- Fr
- عربي
من الذاكرة
في العام 1964 أوقفت الدولة اللبنانية ترامواي بيروت، فاشترت الصين عددًا من حافلاته وذهب بعضها الآخر إلى تجار الخردة، أو تحوّل إلى مطاعم...
الترامواي الذي عرفه اللبنـانيون في مطلع القرن العشـرين، كـان شريـان التنظيم المديني الأساسي في بيروت، وكان طريقها إلى الحداثة، فما هي قصته؟
رزق الله عالعربيات...
اقتصرت وسائل النقل الأولى في لبنان قبل بداية القرن العشرين على الدواب من أحصنة وبغال وحمير، والعربات التي تجرّها الخيول. بعدها تطوّر النقل ليصبح بواسطة عربات تسير بقوة البخار، ومن ثم الكهرباء التي تتولّد في محطّات مركزية، على سكك حديد ممدودة في شوارع المدن وضواحيها.
في العام 1908 استحصلت شركة بلجيكية مؤلفة من رأسماليين عثمانيين وبلجيكيين، على امتيازٍ من السلطنة العثمانية لتسيير ترامواي كهربائي في بيروت بدل المقطورات التي كانت تجرّها البغال والأحصنة. وكان الامتياز يقضي بتشغيل الترام على القوة الكهربائية شرط أن لا تنقطع عنه أبدًا، وبتزويد بيروت بالإنارة.
كان الترامواي يصل الأحياء البيروتية بعضها ببعض، وبمنطقة فرن الشباك، النقطة الحدودية الفاصلة آنذاك بين متصرفية جبل لبنان وولاية بيروت، وذلك تسهيلًا لتنقّل السكان بين «الولايتين»، كما كان يصل أبناء المدينة بمحطتين للقطار في مار مخايل والمرفأ لتسهيل حركة البضائع. كان الترامواي ينقل سنويًا ملايين المواطنين من مختلف الطبقات من منازلهم إلـى مراكز عملهم وبالعكس.
ووفق خط سيره كانت تبنى المستشفيات، والمدارس، والجامعات، ودور السينما، والمقاهي، والأسواق التجارية والدوائر الرسمية. فالترامواي كان شريان التنظيم المديني الأساسي، وهو الذي كان طريق بيروت إلى الحداثة.
الحافلات، شكلًا وعددًا
نجحت الشركة البلجيكية بتسيير 13 حافلة في البداية، ثمّ ارتفع العدد في العام 1912 إلى 52 حافلة. وخلال عهد الانتداب الفرنسي (1920-1943) زادت العربات، فوصل عددها إلى 112 في الـ1928، وإلى 124 في الـ1932 ليبلغ في الـ1934 الـ212. غير أن معظم أسهم الشركة البلجيكية نقلت إلى شركة فرنسية، وأصبحت العربات التي تجرها الخيول تُعرف بإسم «Hippomobile»، وعربات «الأفّورة» بإسم «Motocycle».
اختلف شكل الترامواي بين سنةٍ وأخرى. ففي بداياته، كان الناس يخافون من شكله. وكانوا يصفونه بدولاب الشيطان أو بالحارة المتنقلة. لقد كان أولًا على شكلين؛ منها المغلق والكبير والواسع يتسع لخمسين راكبًا ويبلغ وزنه سبعة أطنان، ومنها الشكل الوسطي الذي يتسع لثلاثين راكبًا ووزنه أربعة أطنان.
وكان مؤلفًا من قسمين، قسم للسيدات وآخر للرجال، يفصل بين المقاعد المتقابلة عمود حديدي، ويتمّ الصعود إليه بواسطة حافة.
الخطوط
ربط الترامواي متصرفية جبل لبنان بولاية بيروت عبر منطقة فرن الشباك حيث تمّ تركيز المحطة المركزية. وفي أواخر عهد السلطنة العثمانية (1908-1918) كان هناك خمسة خطوط:
• الخط الأول: فرن الشباك - باب ادريس - الجامعة الأميركية - رأس بيروت -المنارة.
• الخط الثاني: ساحة الحميدية (ساحة الشهداء اليوم) - طريق بيروت دمشق - فرن الشباك.
• الخط الثالث: ساحة الاتحاد (ساحة رياض الصلح اليوم) - البسطة - الحرش.
• الخط الرابع: فرن الشباك - شارع فوش - شارع المرفأ - محطة القطار.
• الخط الخامس: فرن الشباك - البرج - النهر - الدورة.
طوّر الفرنسيون خطوط الترامواي وجعلوها في الاتجاهين (ذهابًا وإيابًا) بعد أن كانت باتجاه واحد، ووسّعوا الطرقات في الأماكن التي لا تشكّل خطرًا على السلامة العامة.
ترامواي طرابلس: مشروع لم يتحقق
جرت محاولة لتعميم تجربة ترامواي بيروت على طرابلس سنة 1933، إذ حاولت شركة كهرباء قاديشا شراء شركة الترامواي في طرابلس وتسيير عرباتها بواسطة الكهرباء (كانت تجرّها البغال). لكن هذا المشروع لم ينفذ لأن سلطات الانتداب الفرنسية كانت راغبة في تمليك هذه الشركة لمستثمرين فرنسيين.
المحطات والأسماء والتذاكر والزعني...
عُرفت بعض المحطات بأسماء أشخاص لأسباب مختلفة. فمحطة «النويري» سميت كذلك نسبةً إلى العامل عبد القادر النويري الذي كان من أوائل العاملين في الترامواي، وقد أطلقت الشركة اسمه على أحد شوارع البسطة. امّا محطة «غراهام» (قرب سور الجامعة الأميركية) فسميّت كذلك نسبةً إلى أستاذ في كلية الطب في الجامعة نفسها، وهو كان يملك عيادةً هناك. ومن أجل الدعاية لها، كان يعطي الجباة كل يوم مالًا (مجيدية) ليهتفوا باسمه عند توقّف الترام أمام عيادته. وهكذا أصبح المكــان يُعــرف باسمــه.
في العهد العثماني كان ثمن التذكرة يراوح بين 30 و40 بارة للدرجة الأولى، و20 بارة للدرجة الثانية، و10 بارات للأولاد بين 5 و10 سنوات، ومجانًا للأطفال ما دون الخمس سنوات شرط أن يجلسوا في أحضان أهلهم.
خلال عهد الانتداب الفرنسي وبداية الجمهورية اللبنانية، راوح الثمن بين قرش وقرشين ونصف لعامة الشعب. ثم أصبح خمسة قروش في مقاعد «السوكوندو» (secondo) أو الدرجة الثانية ذات المقاعد الخشبية، وعشرة قروش في مقاعد «البريمو» (Primo)أو الدرجة الأولى ذات المقاعد المقشّشة. وكانت الشركة تمنح بطاقات مجانية في هذه الدرجة لوجهاء البلد السياسيين. كما أنها خصصت تذكرة «باس» (Pass) سنوية، للطلاب والموظفين.
وحين استملكت الدولة اللبنانية الترامواي في 2 حزيران 1954، وجدّدت القسم الأكبر من عرباته، اضطرّت إلى رفع ثمن تذكرة عامة الشعب من قرشين ونصف إلى خمسة قروش من دون أن تمس بثمن تذكرة الدرجة الأولى! الأمر الذي أدى إلى انتفاضة شعبية ومقاطعة «أبو الفقير»، فأنشد عند ذاك الشاعر الشعبي عمر الزعني: «حفروا قبرك وانت حيّ، حالك حال يا ترامواي».
بأمرك يا بيك
من المتاعب التي واجهت الفرنسيين في إدارة الترامواي، الأمراض التي يحملها الركاب معهم، لذلك، خصّصوا طبيبًا لكل حافلة وكان يتولى فحص الركاب ومنع المصابين بالأمراض المعدية من الركوب في الترامواي. كما عيّن الفرنسيون مراقبين لفرض القوانين داخل الترامواي وقطع التذاكر.
في عهد الجمهورية اللبنانية، كانت منشآت الترامواي وحافلاته تتعرض للتعديات، فكلّف الجيش بحمايته ومنع قطع الكهرباء عن عرباته، لكن هذا ليس بكل شيء... فقد كان الترامواي مضطرًا للخضوع لرغبات الزعماء وإلا حرم «رعايتهم وحمايتهم». فعندما كان يمرّ من أمام بيت «راكب إكسترا»، كان عليه الامتثال إذا رغب الأخير بالتوقّف ليعرّج على منزله قليلًا.
من بيروت إلى الصين!
اتخذت الحكومة اللبنانية في صيف 1964 قرارًا بوقف العمل في الترامواي لعدّة أسبابٍ (تجارية، وسياسية، وديموغرافية)، واستبداله بالحافلات التي تعمل على البنزين. وقد عرضت معظم العربات في المزاد العلني من أجل تسديد الدفعة الأولى من ثمن الباصات الذي قدّر بـ14 مليون ليرة لبنانية! فاشترت الصين الشعبية قسمًا، واشترى قسمًا آخر تجّار الخردة على أنه أنقاض حديدي، كما تحوّلت بعض المقطورات الباقية إلى مطاعم (في منطقة شوران البيروتية).
إرتأت الحكومة آنذاك ضرورة استبدال الترامواي بحافلات الركاب الكبرى لأن منشآته ومعداته وعرباته أصبحت قديمة، ولأن الباص غير مقيّد بخطوط ثابتة، وبالتالي فاعتماده يخفف من أزمة السير! لكن الباصات الجديدة الـ150 عملت على الخطوط نفسها التي كان الترامواي يعمل عليها، وخلقت مشكلة مع سائقي السيارات العمومية، بخاصة حين عملت خارج نطاق سير الترامواي وبدأت تزيد من خطوطها الداخلية.
بفقدان الترامواي، خسر اللبنانيون وبخاصة الطبقة العاملة، وسيلة نقل مناسبة لهم، إذ كانوا يستخدمونه من الساعة السادسة صباحًا حتى منتصف الليل، كما خسروا وسيلة تواصل بينهم ومعلمًا حضاريًا، تعتمده الدول الكبرى في ضواحي مدنها المكتظة.
في ظل النمو الديموغرافي والاكتظاظ الذي تشهده المدن ربما كان من المناسب اعتماد الترامواي في جميع المدن اللبنانية. فهذا النوع من المواصلات ضروري جدًا لمحدودي الدخل، وللطلاب، وحتى للميسورين، فهو يخفف عن كاهلهم الأعباء المالية، ويجنّبهم التنقل بسياراتهم وارتكاب مخالفات سير وما يستتبع ذلك من محاضر ضبطٍ بحقهم.
أصبح الترامواي من الآثار القديمة في لبنان «فرزق الله على ترامواي بيروت أبو الفقير». واترامواياه، ليتك تعود إلى العمل.
المراجع
- فراجيل، بطرس دي: «الترامواي الكهربائي»، المشرق، عدد 16 (1906).
- Eléftériadès, Eleuthère: Les chemins de fer en Syrie et au Liban, Imprimerie Catholique, Beyrouth, 1944.
- Nammour, Edgard: «Une histoire du tramway électrique de Beyrouth à travers le bimensuel Lisan-al-Hal», Chronos, V.6(2002).
- Mckay, John: Tramways and trolleys; the rise of urban mass transport in Europe, Princeton University Press, Princeton, 1976.