- En
- Fr
- عربي
اسماء لامعة
فنان تعيش الشمس في داخله
تستقي الوانه من شمس الموهبة نورها، وتسكبه على اللوحات دفقاً من الرؤى.
الفنان المبدع جوزف مطر، ابن خليج جونية، ابن الشمس المتوهجة والمدى الجميل، وصاحب اللوحة الساطعة نوراً وتأملاً.
بين جمالات الطبيعة وتعابير الوجوه، واسرار الكون تنقلت ريشته بطواعية وفرادة، وخطت تجربة فنية غنية غزيرة العطاء.
مسيرة عمر
في آب 1935، وفي بلدة غادير الراكنة على كتف خليج جونية، ولد جوزف مطر في عائلة مؤلفة من خمسة اولاد. والده توفيق مطر (متعهد بناء)، ووالدته أوجيني نفّاع من بلدة زوق مكايل.
لم يعرف جوزف مطر والده الذي توفي وهو في عمر السنة، فتربى في كنف والدته التي غمرته بالدعم والحنان. تلقى علومه الإبتدائية والثانوية في مدرسة الأخوة المريميين (الفرير). يومها كان شائعاً استعمال المحبرة للكتابة، أما هو فقد ابتكر للحبر وظيفة اخرى: تلطيخ ثيابه بعد ظهر كل يوم خميس، للهروب من الصف وتقصير الدوام المدرسي الذي لم يكن ينتهي قبل الخامسة بعد الظهر.
وجاء اليوم الذي بدأ فيه استعمال المحابر الصينية ذات الألوان الخمسة فكان وجودها نقطة تحوّل في حياته.
بليرة وربع جمعها بالخمسة قروش اشترى ابن الثماني سنوات تلك المحابر وقد سحرته الوانها. بدأ يرسم الخطوط والظلال بريشته، فرسمت طريق حياته ومستقبله.
راح العبقري الصغير في البداية، ينقل الصور. ومن ثم توسّعت آفاقه ونمت موهبته، فأصبح يلهث خلف المعرفة، لهفة عاشق. وشرع في شراء الكتب الفنية والمجلات الفرنسية، ودرس الرسم بالمراسلة، ولا سيما أن هذه المادة التعليمية كانت مدرجة في المناهج المدرسية.
وفي اثناء متابعة دروسه، بدأ يرسم لإحدى المطابع. في تلك الفترة (في الخمسينيات)، انشئت محترفات متخصصة تدرّس تقنيات الرسم حول بعض السفارات الاجنبية في بيروت، ومنها السفارة الأميركية، والفرنسية والإيطالية. من جهته انتسب جوزف مطر الى المركز الثقافي الإيطالي، ودرس في محترفه فن الرسم والتصوير.
زاول مهنة التعليم في مدرسة «الفرير» واعطى الدروس الخصوصية للتلاميذ، وكان يشتري براتبه الألوان والكتب الفنية والثقافية المتعلقة بمادة الرسم. وصودف ان رأى يوماً إعلاناً عن تصفية إحدى المكتبات، فسارع الى إستدانة 200 ليرة لبنانية، إشترى بها كتب الرسم والموسيقى والشعر، وضمّها الى مكتبته، التي تحتوي اليوم على 20 ألف كتاب.
شغف هذا الشاب الطموح بالرسم، كان ينمو يوماً بعد يوم، ويدفعه الى التنقل من معرض رسم الى آخر في بيروت، لمشاهدة اللوحات الجديدة والتعرّف على الرسامين والفنانين، إلى أن نصحه أحد الأصدقاء يوماً بالتوجه الى الفنان الكبير عمر الأنسي.
وهذا ما قام به العام 1951 حين توجّه الى منزل الفنان عمر الأنسي الكائن في تلة الخياط، حاملاً معه، ما جمعه من خبرة في رسوماته طول تلك الفترة. وبعد أن رأى رسوماته، وافق الأنسي على إعطائه دروساً في الرسم مقابل 10 ليرات للساعة الواحدة.
استمر في تلقي تلك الدروس مدة عشر سنوات، كما تنقل بين محترفي الفنانين الكبيرين جورج قرم ورشيد وهبي، غارفاً من عبقريتهما وثقافتهما الواسعة. وبدأت اعماله تجد طريقها إلى المعارض ومنها تلك التي كانت تنظمها وزارة التربية في الاونيسكو.
العام 1961 حاز منحة تعليمية من الحكومة الإسبانية، وغادر الى إسبانيا، لمتابعة الدراسات العليا في معهد الفنون الجميلة في مدريد، حيث المتاحف العريقة والمحترفات الفنية العديدة.
العام 1963، حاز منحة تعليمية اخرى من الحكومة الفرنسية، فانتقل الى باريس عاصمة الفن والحضارة، حيث نال شهادة دكتوراه من جامعة باريس للفنون التشكيلية، وكان عنوان اطروحته «تكنولوجيا الرسم والتصوير، وبحث حول تدريس الرسم في لبنان». إلى ذلك قام بالعديد من الزيارات الدراسية الى روما، فلورانس، ومانسيرتا في إيطاليا. كما نال في ما بعد دكتوراه من الجامعة اللبنانية (العام 1999).
تأثر بالعديد من الفنانين العالميين، امثال مايكل أنجلو، فيرماير، فيلا سكيز، ورون برواند وسواهم.
العودة الى الوطن
بعد البحث والدرس، عاد الفنان جوزف مطر الى وطنه، ليهبه ما تزوده من علم ومعرفة في مجال الرسم. فتولى مسؤولية إعادة تأهيل الأساتذة في وزارة التربية الوطنية، لإستعمال الرسم كمادة تعليمية ومادة ايضاح، وذلك في مناطق بيروت وجبيل وطرابلس. كما مارس التعليم في دور المعلمين والمعلمات (1964-1978)، وكذلك في مدارس راهبات القديسة تيريزا في دير الصليب، وتولى مسؤولية النشاطات الفنية (أو مادة الرسم سابقاً) في مدرسة الأخوة المريميين في جونية والشانفيل من العام 1963 وحتى العام 1973.
مارس مهنة التعليم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية بين العامين 1967و1999، وترأس قسم الرسم والتصوير في المعهد عينه من العام 1980 حتى 1996.
حالياً ما زال يمارس مهنة التعليم في معهد الفنون الجميلة في جامعة الروح القدس - الكسليك (منذ العام 1964). وهو منذ العام 1959 عضو في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، وكذلك عضو في متحف سرسق.
تزوج الفنان جوزف مطر من السيدة نخلة تاليه (فرنسية الأصل) وكانت تعمل مصممة أزياء لدى المصمم العالمي شانيل في باريس، وله منها اربعة اولاد: جان بيار (مهندس معماري)، وليم (محامي)، مارينا (مهندسة معمارية) ومادونا (طبيبة في الامراض المعدية).
بين الشمس والنور
جوزف مطر إبن الشمس والنور، رسام خلّاق وشاعر. موهبة مشبعة بنور الشرق وروحانيته، ومعرفة تكوّنت في الجامعات والمحترفات والمتاحف الاوروبية. بالنسبة اليه، الروح الشرقية تتحد وتتكامل مع الفكر الغربي لتشكّل شعلة إنسانية متقدة.
فنان ضليع بالتقنيات يمتلك معرفة فكرية واسعة، متحرر من كل الروابط المتعبة، يعّبر عن حاله في النور، لا يحب الغموض والثرثرة.
في كل لوحة من لوحاته يتجلى اللعب بالخطوط والالوان والاحجام، ببراعة مدهشة.
إطار مواضيعه هو الحياة باتساعها والكون بمداه واسراره. هنا منزل من خضرة ينشد قصيدته، او قرية تتأمل البحر، أم شجرة جبارة تسلّمنا فاكهتها. وها هي الشمس داخل الحقل والعائلة حول مولود جديد.
عالج الفنان جوزف مطر عدة حقول تشكيلية مستعملاً تقنيات مختلفة. يتعاطى مع الوجه، والجسم البشري والطبيعة والمواضيع التاريخية، والفن المقدس، بنفس جديد. اما تقنياته من الزيتيات الى المائيات والطباشير والحبر والقلم فتخبر بوضوح الى أي حدّ هو «سيّد» التقنيات المختلفة.
عالم خاص
عندما تدخل الى محترفه في إده-جبيل، تشعر وكأنك في عالم خاص. حقل العمل، الاعمال الفنية والحرفية كلها تتصل بالمدى الطبيعي الرحب، وتعكس شخصية الفنان المبدع والنشيط، والباحث باستمرار عن اسرار الجمال.
الجامعة والأسفار والدراسات والمتاحف والمعارض والصحافة... تجربة جميلة كان عليه ان يعيشها كل يوم، وكل لحظة.
التصوير من الناحية الفنية هو عملية خلق متواصل، وعالم النور عنصر آخر يضاف الى اللون، كما يقول جوزف مطر.
اللون، النور، المدى، الزمن، الكون والوجود. كلها عناصر في التجربة الاخيرة التي تشغله الآن، وتحتل ايامه بنهاراتها ولياليها.
الأنوار تملأ نفسه بأحلام ملوّنة تقوده لاكتشاف طريق الخالق الذي جعل من مخلوقاته خلاقة هي ايضاً. وبالنسبة اليه النور هو روح الشمس وروح الكون. والفن لغة انسانية ملقحة برائحة القداسة. إنه معجب بالمرأة، ويعتبرها الحكمة، ومصدر الوحي والإلهام. انها بالنسبة اليه الأم والعطاء والنجاح. فهي جزء لا يتجزأ من الحضارة الانسانية. ولقد جسّد هذه الافكار في عدة لوحات، تعبّر عن هذا المخلوق الوجودي العظيم والرائع.
البداية والنهاية
اسئلة كثيرة حول الحضارة الانسانية وسر الوجود يرغب الفنان الكبير جوزف مطر في الاجابة عنها، من خلال مشروعه المستقبلي «ألفا وأوميغا» أو «البداية والنهاية»، الذي يضع حجره الأساسي اليوم. إنه مشروع رسم كبير، يعالج الوجود، منذ البدء ولغاية اليوم: الكون، الحضارة، التطوير التكنولوجي، التاريخ، العباقرة، الرموز، التقاليد. وتتجاوز مساحة هذا المشروع خمسماية متر مربع.
يُكبُّ مطر على مشروعه الكبير والصعب متسلحاً بامنية يرددها صلاة يومية: «ان تعيش الشمس في داخلنا، ونعبّر من خلال النور».
عرضت اعمال الفنان جوزف مطر في مئات المعارض داخل لبنان وخارجه (إسبانيا، إيطاليا، مصر، سوريا، فرنسا، السعودية، الولايات المتحدة، البرازيل، الإسكندرية، ساو باولو، الإمارات، سويسرا، بلجيكا، الكويت، الاردن ونيجيريا...)
كما شارك في العديد من البرامج الاذاعية والتلفزيونية، وقدّم العديد من المحاضرات الموجّهة للثانويين ودور المعلمين. وكتب عنه في موسوعة «مئة سنة من الفن في لبنان 1880-1980»، وفي كتاب «تاريخ الفن في القرن العشرين» وفي كتب اخرى عديدة.