- En
- Fr
- عربي
من الميدان
جيشنا أقوى وأثبت وبألف خير
يترافق العيد السبعون للجيش مع غصّةٍ وجرح عميقَين. فالمناسبة هي أيضًا الذكرى الأولى لمعركة عرسال التي استبسل فيها جيشنا، وأفشل مخطّطات الإرهابيين، لكنه دفع ثمنًا باهظًا من أرواح أبطاله، ودماء جرحاه وحرية مخطوفيه.
في هذه الذكرى الأولى للمعركة، أقلّ ما يمكن أن نسأله لكل من أبطالها الصامدين في الجرود «كيفك يا وطن؟» حملنا السؤال وتوجّهنا إلى الجرود للاطمئنان عنهم وإليكم الجواب.
في الحريق والغريق ووعر الطريق...
لم تعد اللبوة وعرسال مناطق غريبة أو بعيدة بالنسبة إلينا، فقد اعتدنا المسلك بعد أن زرناها عدّة مرّات من قبل في خضمّ الأحداث التي كانت تدور فيها. ولكننا اليوم نسلكها، لا لمعلومات عسكرية ولا للتعرّف إلى أماكن انتشار الوحدات ومهمّاتها، بل لتفقّد العسكريين، فهؤلاء الذين أمضوا الشتاء في الجرود ما زالوا هناك تحت أشعّة الشمس الحارقة.
الغريب في هذه المنطقة، أنها بيضاء على مدار السنة: في الشتاء تغطّيها الثلوج، وفي الصيف يكسوها الغبار الأبيض والرمل بسبب طبيعتها الصحراوية. كل ذلك لا يبدو مهمًا لعسكريي الألوية والأفواج المنتشرة في هذا القطاع. فالمراكز باتت اليوم أفضل على مستويي التحصين والخدمات، والعسكريون باتوا يعرفون المسالك والتعرجات، الأمر الذي زادهم ثقةً وبدّد عامل الخوف.
في جولة على بعض مراكز اللواءَين الثامن والسادس وفوج التدخل الخامس، جمعنا دردشات وخبريات طمأنتنا... جيشنا بألف خير، أقوى وأثبت من ذي قبل، و«أينما حلّ، يقف رجاله كصخور لا تهزّها رياح».
«إذا راحت البدلة راح الوطن»!
في قيادة اللواء الثامن في اللبوة، استقبلنا العميد الركن الديك رئيس القسم الثاني في اللواء. وكان ذلك اليوم حافلاً: وسائل الإعلام تنسّق مع اللواء تمهيدًا للبث المباشر من مراكز الجيش في جرود عرسال، في لفتة تقدير للعسكريين في عيدهم. وقد كانت تلك المرّة الأولى التي يدخل فيها الإعلام المدني إلى المراكز المتقدّمة. وفي خضمّ هذه «المعمعة» توجّهنا بواسطة آلية للّواء إلى بعض المراكز المنتشرة في القطاع وقابلنا العسكريّين وقد باتت هذه الأرض بيتهم الذي يعيشون فيه ويستبسلون في حمايته.
الطريق ما زالت نفسها، وعرة ومحفّرة، خصوصًا تلك المؤدّية إلى المراكز العسكرية الأمامية على الجبهة، والتي استحدثها الجيش تسهيلاً لمهمّاته. الفارق الوحيد هو أنّ المدنيّين باتوا يتنقّلون بحرية وأمان، فالطرقات لم تعد خالية بسبب الخوف والرعب الذي كان يسكن قلوبهم. وعلى طول الدرب، أناس يلقون التحية على العسكري سائق الآلية وكأنّ معظمهم يعرفه.
توقّفنا عند أوّل حاجز للجيش، كانت السيارات تمرّ بسلاسة على عكس المرّة الماضية، يلقي السائقون التحية ويتابعون طريقهم... هي المعركة الأولى التي خاضها الجندي علاء من الكتيبة 83 على جبهة في حرب ضدّ الإرهاب منذ تطوّعه في العام 2010. لا يخفي شعور الخوف الذي انتابه في البداية، أمّا اليوم وبعد مرور سنة على وجوده في هذه المنطقة، فهو يقول: «إن لم نحمِ نحن الوطن، من سيحميه؟»، ويتابع القول: «لم أعد خائفًا ولا أفكّر بأي أمر حين أكون على الجبهة سوى بواجبي... فإن نحن سقطنا لن يبقى لا أرض ولا وطن ولا عائلة. نبقى في ترقّبٍ دائم، لا نتساهل ولا نتلكّأ لأن العدو غدّار ولا يمكن أن نغفل عنه، حتى في الأيام الهادئة التي لا تشهد تحرّكات».
لم يفكّر علاء يومًا بالانتقال إلى مركز خدمة مختلف: «هنا فهمت حقًا معنى شعار الجيش، الشرف والتضحية والوفاء، النابع من صمودنا على الجبهات في وجه أي معتدٍ... لا مجال للتردّد فإذا راحت البدلة راح الوطن!».
في أوقات فراغه يهوى علاء الطبخ فيقول ممازحًا: «عاملين نسوان وأحيانًا شعراء...»، أمّا قصائده فللجيش والوطن.
في الدشمة: رجل يصدّ 50
تابعنا الطريق نحو مراكز أخرى، وكانت الأخبار والقصص تتوالى على لسان السائق: «كلنا شاركنا في المعركة... حين انتقلنا إلى عرسال منذ عام تقريبًا، لم نكن نعرف طبيعة المنطقة، وتجهيزاتنا وتحصيناتنا كانت محدودة وغير كافية لمواجهة العمليات الإرهابية المخطّط لها. ولكننا استطعنا بفترةٍ وجيزة أن نثبّت وجودنا، فبتنا اليوم محصّنين بشكلٍ متقَن، وبات على العدو أن يحسب ألف حساب قبل التفكير بالاعتداء علينا. أصبح كل عسكري منّا محصّنًا في نقطة المراقبة الخاصة به، ومحميًا داخل دشمة يستطيع منها أن يصدّ 50 رجلاً من دون أن يُصاب بخدشٍ واحد. إضافةً إلى ذلك، حفظنا المنطقة بطرقاتها وتضاريسها وتلالها والجبال، وهذا الأمر أشعرنا بالثقة والراحة أكثر».
ويعقّب مرافقه على كلامه قائلاً: «أصبح لديّ سريري الخاص، وأصبحت محميًا من الشتاء ومن أشعّة الشمس، وهذا يشعرني بالراحة أكثر. والتحصينات التي قمنا بها في المراكز رفعت من معنويات العسكريين وبدّدت الخوف من قلوبنا. وعلى الرغم من بعض النواقص اللوجستية، إلاّ أننا نتسلّح بالشجاعة وقوة القلب، نقاتل حتى آخر نفس ولا نتردّد».
ثكنات مستحدثة
لقد لحظت قيادة الجيش وقيادة اللواء صعوبة الاتصالات في المراكز المتقدّمة لتواصل العسكريين مع عائلاتهم أو للإبلاغ عن أي طارئ، فخصّصت خطوط هاتف لمثل هذه المواقع، يتمّ استخدامها عند الضرورة. وهي مركّزة في بعض النقاط المتقدّمة، وكل من يحتاج للاتصال يجد من يقلّه إلى أقرب نقطة لذلك. فالضباط يراعون ظروف العسكريين ويحاولون التخفيف عنهم وتسهيل أمورهم.
واللافت أن اللواء الثامن استطاع خلال هذا العام استحداث نقاط تمركز إضافية فقد ارتفع عدد المراكز من 12 إلى 56 مركزًا على امتداد القطاع، وهي مجهّزة جميعها بالماء والكهرباء وضرورات العيش.
هنا في مركز الكتيبة 82 على أحد التلال، تغيّر الوضع كثيرًا عمّا كان عليه خلال العام الذي مرّ. بتنا نشعر وكأننا في ثكنة عسكرية ثابتة لا في مركز مستحدَث فرضت وجوده الظروف والمستجدّات. لقد تحسّنت أماكن المنامة الخاصة بالعسكريين: غرف جاهزة تمّ استقدامها، وأخرى بنتها زنود العسكريين وحرصت على تجميلها لرفع المعنويات. وفي وسط الساحة ثُبِّتت سارية للعلم كما في الثكنات العسكرية العادية، أمّا الفارق فهو في مهمات الحراسة والمراقبة التي تأتي في المرتبة الأولى من حيث الأهمية بالنسبة إلى المتمركزين هنا، وتتبعها المهمات الروتينية الإدارية وغيرها.
ماذا يفعلون حين تكون الجبهة هادئة؟
يجيب الجندي محمد من مركز قيادة الكتيبة 82 عن هذا السؤال بالقول: نتابع مهمّاتنا العسكرية وأعمالنا الروتينية، نوبات الحرس، والدوريات والتحصينات لتحسين ظروف الخدمة. نحفر خندقًا هنا ونبني دشمة هناك... وحين نحظى بوقت للاستراحة نستريح ببزّاتنا لنبقى جاهزين لأي طارئ.
ويضيف العريف حسن من الكتيبة نفسها: «في الخدمة نشعر بأنّنا بين أهلنا. هذا الأمر يزيد شعورنا بالاطمئنان والثقة، خصوصًا بعد التعزيزات التي استُقدِمَت وزيادة عدد العسكريين. لقد اعتاد واحدنا على الآخر ولكننا لا نجد الكثير من الوقت للجلوس بهدوء بسبب كثرة المهمات وضرورات الحيطة والأمان».
• وهل تكيّف أهاليكم مع الوضع كما تكيّفتم أنتم معه؟
- من الطبيعي أن يشعر الأهل بالخوف والقلق على أولادهم، لكنهم باتوا على دراية بأهمية ثبات الجيش وانتصاره في هذه المعركة. ويضيف العريف: وضعنا جيّد ومراكزنا محصّنة، ومنذ فترة وجيزة أحضر أحد الضباط عائلته وجال معها في المراكز، كإثبات على زوال الخطر، فالتحصينات والتدابير كافية لحمايتنا. كما أنّ تعاون أهالي المنطقة معنا سهّل مهمّتنا وجعلنا نشعر بقدر أكبر من الأمان. الوضع اختلف اليوم كليًا عمّا كان عليه، الأهالي يتّصلون بنا، ويتعاونون معنا ويبلغون عن أماكن وجود المسلّحين أو الفارّين. القسم الأكبر من أهالي عرسال يرغب في التخلّص من هذه الظاهرة الإرهابية التي ألحقت الضرر بمصالحهم وأمنهم وأرزاقهم. فقد خسر أهالي المنطقة في هذا العام مثلاً، محصول المشمش والكرز في الجرود، الذي سرقه الإرهابيّون.
مهارات مضاعفة
في قيادة فوج التدخل الخامس استقبلنا المقدّم كلاّس، وقبل أن نسأل عن معنويات الشباب أتانا الجواب: لقد نفّذوا في الآونة الأخيرة عدّة عمليات هجومية هي أقرب إلى عمليات الوحدات الخاصة، وكانت النتائج جيّدة، فقد كبدوا العدو الإرهابي خسائر جمّة. نحن لم نعد في موقع الدفاع فقط، بل بتنا ننفّذ عمليات مهاجمة داخل خطوط العدو (إغارة) بدقّة واحتراف.
لقد بات العسكريّون قادرين على رصد أي حركة للعدو على الجبهة والرمي عليه وصدّ أي محاولة للتسلّل من داخل عرسال إلى الخارج، ومن الجرود إلى داخل البلدة. ومن خلال الاستطلاع والمراقبة استطعنا أن نحفظ كل تضاريس الأرض وأن نرصد أماكن تحرّك الإرهابيين، وبالتالي لقد اكتسب العسكري خبرة كبيرة وبات الفرق واضحًا في الأداء. زادت ثقتنا وتخطّينا الكثير من الصعوبات... «في الصيف حريق وفي الشتاء غريق ومع ذلك نحن نزداد قوّةً وخبرةً وتحصينًا. نسبة الجهوزية لدينا لا تقلّ عن 75% تحسّبًا لأي طارئ. وسوف نقاتل حتى آخر نفس...».
في الفوج نفسه، يخبرنا العريف شادي أنّ معنوياته ارتفعت كثيرًا بفضل التجربة والخبرة على الأرض. فكل ما تدرّبنا عليه سابقًا من خلال الدروس النظرية والمناورات، طبّقناه فعليًا، وهذا الأمر زادنا خبرةً وقدرةً على المواجهة. لقد تأقلمنا مع طبيعة الأرض التي تختلف كل الاختلاف عن أماكن تمركزنا السابقة في بيروت، كما أنّ المهمة تختلف بطبيعة الحال. في الأيام الهادئة، نقوم بأعمال التحصين والتنظيف والتمرّس على الأسلحة وتعهّدها والتدريبات.
• هل من وقت للتسلية؟
- عندما تسمح الظروف نتسلّى بالأحاديث، العمل، الخدمة، العائلة... نتحدّث في كل ما يخصّنا، فالعلاقة وطيدة جدًا بين رفاق السلاح.
لا يصيبنا إلاّ ما كتبه الله لنا...
• هل تتمنى أن تغادر إلى مركز آخر؟
- كل شخص يتمنّى أن يكون مركز عمله قريبًا من منزله، أنا أسكن في الشوف، ولكنني اعتدت الأمر وتأقلمت مع ظروف الحياة العسكرية، بُعد المسافات لم يعد أمرًا يشغل بالي. فأمام المهمات الكبيرة لا وقت للتفاصيل. وقد توصّلت إلى قناعة مفادها أنّه لا يصيبنا سوى ما كتبه الله لنا أكان على الجبهة أو قرب المنزل، لذا فلا ضرورة للخوف ولا للتردّد واتكالنا دائمًا على الله.
نودّع العريف ونتوجّه إلى الجندي ابراهيم الذي اعتاد تنفيذ مهمات حفظ أمن روتينية وقد بات اليوم مع رفاقه في مواجهة المجموعات الإرهابية، يقول: خوض المعارك هنا بدّد الخوف لدينا وزادنا ثقةً بأنفسنا وبقدراتنا. أمّا عن الحياة اليومية فيقول: إذا طرأ أي وضع عائلي غالبًا ما تراعى ظروفنا. في الأوقات الصعبة، يدعم كلّ منا الآخر، وفي أوقات الهدوء نتحادث، نقرأ، «مجلّة الجيش» تؤنسنا، بيت الجندي المتنقّل يلبّي حاجاتنا الأساسيّة، حتى أننا أحيانًا، نشاهد التلفاز... ولكننا دائمًا على أهبة الاستعداد...
«فشّة خلق»
لم يبدُ السائق موافقًا تمامًا على كل ما سمعه من الرفاق، لكنه لم يعترض، انتظر إلى أن أصبحنا في السيارة لنكمل سيرنا باتجاه قيادة فوج التدخل الخامس «ليفشّ خلقه» قائلاً: «الله يساعد العسكري... لا يتأفّف، لا يتذمّر، هل يستطيع أي شاب أن يمضي هنا أسبوعًا فقط في مخيّم كشفي مثلاً؟».
في لحظات الضعف والقوّة...
غادرنا قيادة التدخل الخامس وسلكنا طريق العودة، عند اللبوة التقينا الرقيب سامر أحد عسكريّي الكتيبة 63 وقد كان بانتظار الآلية العسكرية لتقلّه إلى مركز خدمته. يخبرنا أنه ثمّة آلية تقلّ العسكريّين الذاهبين في مأذونية، من مراكز انتشارهم في الجرود إلى أقرب نقطة يجدون فيها وسائل تنقلهم إلى منازلهم، كما تقلّ الداخلين من المأذونيات إلى مراكز خدمتهم.
يتذكّر سامر كيف تمركزت سريّته منذ عام في وادي عطا وعين الشعب لمنع المجموعات الإرهابية من التقدّم باتجاه اللبوة... يستعيد الأحداث وكأنها تمرّ الآن أمام ناظرَيه: لقد كان من الطبيعي أن نشعر بالخوف، بالنسبة إليّ كانت أول معركة حقيقية أشارك فيها. كل شيء جديد والعدو لا يرحم، ولكن حتى حين كنتُ أشعر بالخوف والتردّد، كان وجود الرفاق إلى جانبي يخفّف من وطأة هذه المشاعر ويمدّني بالاندفاع والشجاعة. كنا كلّما ضعف فرد منّا يجد الآخرين إلى جانبه، وكلما احتاج إلى شيء وجد من يؤمّنه له. وهذا ما زادنا تعاضدًا وقوّةً وإرادة في الدفاع عن أرضنا.
تلك كانت آخر كلمات رافقتنا في طريق العودة، عدنا إلى بيروت وفي بالنا صورهم وكلماتهم، وعهودهم للوطن، للأهل، وللرفاق... الرفاق المزروعين في تلك الجرود، الرفاق الذين باتوا في دنيا الخلود، والرفاق الذيــن مــا زالــوا أســرى... عهد واحد: رايتنا ستظلّ مرفوعة.