- En
- Fr
- عربي
ثقافة وفنون
ميشال سليمان من روّاد الشعر العربي الحديث، ومن النقاد البارزين، وقد ترجم بعض أشعاره الى العديد من اللغات الأجنبية، إلتزم في كل إنتاجه الشعري والنثري قضايا وطنه وشعبه، رحل إلى دنيا الخلود وهو في أوج عطائه الإبداعي، فترك مكانه خالياً.
ولد ميشال سليمان في بلدة البترون عام 2391، وتلقى دروسه الإبتدائية عند الأخوة المريميين، ثم تابع تحصيله العلمي في الجامعة اليسوعية. حيث نال دكتوراه دولة في الفلسفة والأدب. دخل عالم الصحافة وعمل رئيس تحرير مجلة «الطريق» من 5591 حتى 5691، ثم رئيس تحرير مجلة «الفكر الجديد». إشترك في العديد من المؤتمرات الأدبية والثقافية العالمية في آسيا وأوروبا وأفريقيا.
عالج شاعرنا الرواية، والقصة، والملحمة، والدراسة، والنقد والترجمة. نشر العديد من مجموعاته الشعرية، والدراسات النقدية والترجمات وظل في جعبته العديد من المؤلفات التي لم يتمكن من نشرها قبل وفاته، وهي تنتـظر مَن يهتم بتراث الأسلاف، كي تخرج من ظلمة الأدراج إلى نور الواقع.
كتب ميشال سليمان ملحمة شعرية (نالت جائزة أصدقاء الكتاب) مؤلفة من حوالى سبعمائة بيت، وهذه الملحمة نقلت معركة الإلياذة الهوميرية إلى معركة الحياة الإجتماعية. تسبح الملحمة هذه في عالم من الواقع الثائر، والأحلام الملونة، على أجنحة الموسيقى المتماوجة عبر البحور التي تثور أو تهدأ، وتتقطع أو تتصل، بحسب الصور التي تهب عليها.
آراء نقدية
كان لميشال سليمان آراء نقدية ثاقبة سواء بالنسبة الى الشعر أو الرؤية أو المسرحية، أما في الشعر، وخصوصاً الشعر الحديث، فنظرته قد تختلف عن نظرات غيره من النقاد والشعراء لما تتميز به من علمية وواقعية ومنطقية.
فالشعر حسب رأيه، ككل الظاهرات الفنية، كائن حي يمرّ بأطوار عديدة، يكتسب في كل منها شكلاً معيناً، ونكهة خاصة. ونظرة سريعة على تاريخ تطور الشعر عبر العصور، تعطينا الدليل القاطع على أن هذا الكلام النسيق النميق، الذي كان لغة العبادة والسحر الأولى، قد تطور في كل مرحلة مرّ بها، مكتسباً خصائص ومفاهيم جديدة. ولكنه كان دائماً محتفظاً بقدر كبير من عناصر تكوينه الأولى والأساسية، وهي تتمثل بالنغم، والصورة المجنحة، والعاطفة، والموضوع. والشعر لديه ليس حديثاً ولا قديماً، فثمة الكثير من التفاهات في الشعر الحديث والقديم معاً، كما هناك روائع فيهما على حد سواء، ولكنه إشترط قدراً معيناً من العناصر الشعرية، لكي يدرجه في نطاق الشعر، وإلا فهو أقرب عنده إلى النثر. وعلى الشعر الحديث أن يكون: صوراً تتكلم، وأنغاماً تتراقص، وعاطفة في أنقى وأرقى درجات توترها، تنتظم جميعها أصفى ما في البيان العربي من كلام، في موضع معيّن، ولا فرق عنده أي شكل تظهر فيه.
تقوم قصيدة ميشال سليمان على عملية خلق جديدة، وهذا يعني أنه قام بعملية بناء شعري جديد، يعتمد البحر وتفعيلاته الكاملة والمجزوءة، وينتقل من وزن إلى آخر حسب ما تقضي الصورة المدرجة في حالة نفسية أو زمنية، وما تستلزم من تطويل، وتقصير، وتبسيط، وتكثيف. والكلمة في الشعر، كما الأعضاء في الجسد، لكل واحد وظيفة معينة يقوم بها، ضمن نطاق الحركة العامة. ولهذا يقول ميشال سليمان: «إن الكلمات التي كثر استخدامها عندي، تضفي على القصيدة مناخاً معيناً...». وهذا الشعر يعبر بفكرته وبلفظه القائمين على الصورة الفنية. أما مقطع فصل المشاهد في ملحمته الشعرية، فيتدرج في نطاق الصورة المكثفة المعبّرة بخطوطها اكثر من تعبيرها بلفظها.
عمل شاعرنا على التوفيق بين منهجين فنيين، وهذا التوفيق يشبه التوفيق بين زوجين مختلفي المذهب. والمهم في الأمر حسب اعتقاده أن يكون الزوج والزوجة من نسل وعقل سليم، وهذا كفيل بأصالة المولود الجديد. وهذا ينطبق على قصيدته التي عمد فيها إلى نقاء الكلاسيكية، وصفاء الرمزية السليمين من عاهات الركاكة والجمود.
رثاء الخيول الهرمة
شعراء الملاحم في لبنان قلّة، فأولهم الشاعر بولس سلامه، والشاعر جميل ذبيان، وشاعرنا ميشال سليمان، الذي كتب
ملحمة شعرية تحت اسم «رثاء الخيول الهرمة»
وهذه الملحمة - القصيدة تقوم على عملية خلق جديد لموضوع جديد. أما الموضوع، فهو مشكلة إجتماعية عميقة تعاني منها السلالة المعاصرة في كل العالم، وتتمثل بما اتفق على تسميته بالقلق الوجودي، وما يصدر عن هذه الحالة النفسية من أزمات.
وأما الشكل يقول ميشال سليمان: «فهو تظهير هذه المأساة الوجودية، وعرضها بشكل جديد يعتمد الصورة المعبّرة. ولهذا فإن «رثاء الخيول الهرمة» هي أشبه بملحمة حديثة، تعبّر عن توق الإنسان إلى مستقبل أفضل. كما تصوّر بالمجاز، رحلة هذا الإنسان عبر ما يصادف في مسيرته من عقبات، تدلّل في نهاية الشوط على قوة الإرادة العازمة على تخطي التخوم المرئية، إيذاناً ببلوغ غيرها، بحيث يتضح لنا في سياق الكتاب، حب الحياة والتفاؤل برغم إطار الحزن والكآبة».
وعن المتناقضات التي يستعملها في شعره، ينفي ميشال سليمان وجودها، انطلاقاً من أن المعــــاني مثــــل: «تســـوح في بحر حجـــر» أو «تغوص في جدب المطـــــر» الـــــــخ، إنمــــا هــــي إيغـــال في اســــــتنفاد معنى الجـــوهـــر الــــذي تحــــدث عنـــه مراراً.
وضع سليمان عنوان «رثاء الخيول الهرمة» لملحمته، لأن للرثاء في نفسه رنيناً مستحباً، يشدّه دائماً إلى الواقع الذي يعيشه، وعنده أن الحياة، عبر تحولاتها، عملية موت وبعث مستمر. بمعنى، مأساة عصرية، تفصل بينها هنيهة، توقف الحس الفاعل، وتحمله على الجهر بما يخالجه، فيكون الرثاء.
لقد وقف شاعرنا في ساح الحياة، فرأى وجهاً لها يهرم ويتعفّن، ووجهاً آخر يشرق بالنضرة والعافية، قديماً يتشبث بكرسيّه عبثاً، وجديداً يتسامى إلى مقعده طواعية، فكانت «رثاء الخيول الهرمة»، رثاءً مراً للجمود والظلامية المنهارة، ورثاء آخر بمعنى التهاليل بطلوع النماء والخصب المستقطب الجديد المتطور بصفة كونه يحمل بطبيعته أيضاً إستمرار الفجيعة، إلا أنه استمرار متحوّل من الحزن إلى الفرح.
والشاعر أيضاً يعبّر عن تشاؤمه في أحد مقاطع قصيدته، وهذا المقطع يمثل دورة التوتر النفسي عند الجماعة، قبل تحولها الثوري. أما سبب هذا التشاؤم الصامت والعنيف، فهو كون القصيدة مطبوعة بطابع المأساة التي تحمل الحزن العميق الناجم عن الخيبة التي منيَ بها المسافرون، والمتأتية عن عدم بلوغ المؤمل. وأما العنف فهو الكآبة المتمردة التي تحمل وزر الإخفاء، وجذور الإنتصار، وهو قبل هذا كله، المؤاساة التي تمسح عن جبين النفوس المتألمة غبار سفرتها الطويلة عبر المدى الأطول.
الشاعر سليمان كان ثروة فكرية وأدبية وشعرية، وسيظل خالداً في ذاكرة الأجيال عبر العصور والسنين، لأنه خالد من وطن خالد.