محطات وتأملات

عسكري... في لباس مدني
إعداد: العقيد الركن حسن جوني
كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان

ينتمي واحدُنا إلى المؤسسة العسكرية بكلِّيته ويصبح، عقلًا وقلبًا وجسَدًا ودمًا ووعيًا ولاوعيًا، ملكًا للجيش وليس لنفسه، ويصبح الجيش بالنسبة إلينا مهنة وقضية وعقيدة ورسالة وعائلة كبيرة...
تلكَ معادلةٌ ذات تأثير مصيريّ على حياة كل منا نحن معشر العسكريين، اذ لا توجد مهنة اخرى في الحياة تمتلك صاحبها غير مهنة السلاح، وفي ما عدا ذلك فالإنسان هو الذي يمتلك مهنته ويسيطر عليها ويتحكم بها. في جميع المهن الأخرى يمكن بسهولة الفصل بين العمل والحياة والعائلة والمنزل، اما في الجيش فلا، لماذا؟ لأن العسكريةَ ثقافةُ حياة ينخرط بها واحدُنا لتصبح سمة وجوده، وتشكل له هويته الجديدة التي يعيشها ما تبقى له من نصيب العمر، هويةٌ وطنية تتجاوز فردانيته لتشمل عائلته واقربائه واصدقائه ومحبّيه، فتضفي عليهم عبق الوطنية ومحبة الجيش وتخلق لديهم شعورًا صادقًا بالانتماء الى هذه الثقافة الوطنية النبيلة.
في هذه الهوية العسكرية يكتب الإسم والمذهب فقط!


الإسم: «شهيد»، المذهب: «لبناني».
بين هذين المحدِّدَيْن لهوية كلٍ منا تتحرك حيواتنا نحن العسكريين، تحكمها علاقةٌ وجدانيةٌ بين الإسم والمذهب، علاقةٌ باتجاهين، الأول أن واحدنا شهيدٌ من أجل لبنان، كل لبنان، من دون تمييزٍ بين ابنائه ومناطقه، والاتجاه الثاني أن من أجل لبنان حصرًا، لبنان الواحد، نحن العسكريون كلنا شهداء. معادلة الكرامة هذه تجسّد مفهومين عظيمين اولهما حتمية الإنتماء للوطن والوفاء له حصرًا وثانيهما الاستعداد الدائم للتضحية بالذات من أجل شرف هذا الوطن وابنائه.
من هنا نجد الكلمات الذهبية الثلاث التي ترصَّع شعار الجيش: شرف – تضحية – وفاء. وبهذه الفلسفة نفهم استشهاد رفاقنا من الضباط والرتباء والافراد في مختلف المناطق اللبنانية ودفاعًا عن مختلف الفئات من دون تمييز في مستوى التضحية والفداء، وآخرها شهداء حاجز الجيش على مدخل مدينة الهرمل.
فإذًا، نحن عسكريون في هويتنا وليس في بزَّتنا العسكرية فقط، ولكن هذه البزَّة تصبح جزءًا لا يتجزأ من هويتنا، فيغدو واحدُنا بحالته الطبيعية في لباسٍ مرقط وبحالة استثنائية في لباسٍ مدني، حتى الناس المحيطين بنا، تعلق في اذهانهم صورتُنا في لباسنا المرقط، وعندما يشاهدون احدنا بلباس مدني يعلّقون بعفوية «شو مدني اليوم»، ما يعني أن الأمر الطبيعي أن تكون في لباس الشرف والتضحية والوفاء وأن خَلْع البزَّة المرقطة ليس إلا حالة مؤقتة واستثنائية. نعم إلى هذا الحد تحتوينا المهنة العسكرية وبهذا العمق ننخرط بها.
ولكن المسألة ليست مسألة لباس فقط، بل ابعد من ذلك بكثير، فما اريد قوله على الرغم من كل احترام للبزَّة المدنية ومرتديها، إن الهوية العسكرية التي يحملها العسكري، والمنوَّه عنها في مطلع الكلام، ذات المحدِّدَين الإثنين الإسم والمذهب، ستبقى هويته الدائمة ببُعدَيْها العظيمين: إستعداده للشهادة من اجل مذهبه الوحيد لبنان، ذلك سواء خلع بزَّته العسكرية مؤقتًا او نهائيًا واصبح متقاعدًا او مسؤولًا في مجال آخر من مجالات خدمة الوطن، إذ أن العسكري (على اختلاف رتبته) حتى لو تقاعد فإن هويته العسكرية لن تتقاعد البتَّة. وسيبقى حينذاك يُرى في اذهان الناس بلباسه المرقط ولو لم يعد يرتديه قط! واناقةُ البزَّات المدنية الرسمية أو العادية، الإيطالية أو المحلية، لن تنجح في تغيير صورته ببزَّته المرقطة في اذهان الناس ووجدانهم بعد أن لبسَها أعوامًا طويلة قد تصل عند بعضهم إلى الأربعين. كما أن دمَه الذي يجري في عروقه قد اصبح مرقطًا ايضًا وهو ما يستحيل تغييره مهما كان الموقف والموقع والمنصب.


بهذه الثقافة الوطنية العميقة والصادقة يُصقل رجال الجيش، الذين يحرسون القيم الثلاث التي ترصِّع شعار الجيش ويفدونَها بدمائهم، فواحدُهم لا يخاف ولا يساوم ولا يساير ولا يتهاون ولا يتراجع امام أحد على حساب القيم الوطنية، لأنّه لا يخاف الموت الذي كان تصالح معه بعد أن رافَقَه على مدىً طويل من زمن المخاطر التي عاشها في حياته العسكرية الطويلة، ولإن إسمه «شهيد» في بطاقة هويته العسكرية الدائمة. وهو لن يعمل إلا لوطنه لبنان كل لبنان على اختلاف الجغرافيا والديموغرافيا. فهو يعرف جميع نواحي هذا الوطن وروابيه، وأنهاره وسواقيه ويألفها، وهو صديقٌ لكل ملَّةٍ وعشيرةٍ تعيش فيه، وهو يعرف عاداتهم وتقاليدهم وهمومهم ومخاوفهم وأحلامهم وآمالهم ويفهمها، بل يدرك عمق وجدانهم الوطني ويشاركهم فيه.
هذا هو العسكري بلباس مدني، وهو الأَولى بأن يرعى شؤون الوطن ومواطنيه!