- En
- Fr
- عربي
أوراق من التاريخ
ما إن سكتت المدافع أوائل أيلول ١٩٤٥ إيذانًا بانتهاء الحرب العالميَّة الثانية حتى اشتعلت حرب جديدة أشد ضراوة وفتكًا، لكن بين المنتصرين هذه المرة، وبخاصة بعد امتلاك الاتحاد السوفياتي للقنبلة النووية وتسجيله هدف التعادل في مرمى الولايات المتحدة الأميركية. فقد كسر بذلك احتكارها للسلاح النووي، حارمًا إياها حصرية استثمار مفاعيله التدميرية في سبيل فرض إرادتها وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في هذه المنطقة أو تلك من العالم. في هذه المرحلة بدأت تتشكَّل ملامح عالم ما بعد الحرب وبدأت الدول تنخرط في اصطفافات جديدة واضحة.
في الواقع لم يكن نجاح السوفيات في تحقيق القنبلة النووية حدثًا عابرًا، أو مجرد تعادل مع الولايات المتحدة الأميركية، بل كان عاملًا أساسيًا في فرض توازن رعب بين المعسكرَين الغربي والشرقي لأكثر من أربعة عقود. تحالف الضرورة بين الشرق والغرب خلال الحرب لم يصمد كونه كان مبنيًا على العداء المشترك للنازية فقط. فقد ظهرت للعلن التباينات بين الاتحاد السوفياتي من جهة والولايات المتحدة الأميركية وإلى جانبها كل من المملكة المتحدة وفرنسا من جهة أخرى، حتى قبل انتهاء الحرب والقضاء على النازية، ما أنذر بأوخم العواقب.
بين العامين ١٩٤٥ و١٩٩٠ اندلعت حرب من طبيعة جديدة لم تألفها البشرية من قبل، كانت حربًا من نوع آخر بمعايير ومقاييس جديدة ومختلفة، وقد اصطُلِحَ على تسميتها بـ«الحرب الباردة»، وقد كان وصفها بالباردة نتيجة أنّ الحرب لم تكن مباشرة بين قطبَي العالم، بل كانت بالواسطة من خلال قوى إقليمية ومحلية. شملت جغرافية هذه الحرب كل زاوية من المعمورة وأكثر، إذ لم يسلم الفضاء ولا البحار ولا حتى أعماق البحار من النشاطات والعمليات والعمليات المضادة للأفرقاء المتحاربين.
سعى كِلا الطرفين إلى جمع ما أمكن من معلومات عن الطرف الآخر لتفادي المفاجأة، في هذا الإطار نشطت أجهزة المخابرات في البحث عن أي معلومة يمكن الاستفادة منها أو استثمارها، كما جهد كل طرف لتنشيط عمليات الاستخبارات المضادة للاستعلام عن حقيقة ما يعرفه الطرف الآخر عنه. من ناحية أخرى شهدت الحرب عمليات تجنيد عملاء غير مسبوقة في التاريخ، كمًّا ونوعًا، مع ما رافقها من عمليات تجسّس وتضليل، كما شاعت عمليات التجنيد والتجنيد المضاد وذاع صيت العملاء والعملاء المزدوجين.
معظم العمليات المخابراتية التي نُفِّذت إبّان الحرب الباردة، بقيت سرّية وطي الكتمان، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة التي كانت تدور في فلكه، لم تتم إماطة اللثام عن جميع العمليات، إذ بقي كثير منها محفوظًا في أرشيفات المخابرات داخل خزائن مُحكمة الإغلاق. من العمليات التي نفَّذها الأميركيون للتجسّس على السوفيات عملية «أجراس اللبالب» Operation Ivy Bells والتي سعوا فيها للتنصّت على كابلات اتصال بحرية سوفياتية ممدودة في أعماق بحر أوخوتسك غرب المحيط الهادئ بين روسيا واليابان.
كانت عملية مشتركة نُفِّذت إبّان فترة الحرب الباردة بتدبير مُحكم من قبل ثلاثة أجهزة أميركية؛ القوات البحرية، وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي. هدفت العملية لتركيب توصيلات سلكية على خطوط اتصالات سوفياتية ممدودة تحت البحر. وذلك بغية التنصّت على الاتصالات السوفياتية للحصول على معلومات حول تكنولوجيا الغواصات والصواريخ لديهم، وبخاصة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وحجم الضربة النووية السوفياتية الأولى.
في تلك الأثناء كان السوفيات يعتبرون بحر أوخوتسك جزءًا من مياههم الإقليمية، وبالتالي كانت الملاحة فيه محظورة على المراكب الأجنبية. الوسيلة الوحيدة للدخول الآمن إلى البحر كانت من خلال سبر أعماقه بواسطة غواصة، إذ إنّ السوفيات كانوا قد نشروا أجهزة إنذار لرصد أي حركة دخيلة في البحر وكشفها، إضافة إلى قيامهم بتنفيذ تمارين ومناورات بحرية فوق سطح البحر وتحته بصورة دائمة، ما جعل أي حركة في مياهه مستحيلة ومحفوفة بمخاطر جديَّة.
بدأت الخطة خلال العام ١٩٧٠ عندما أجرى مدير الحرب تحت البحر في مكتب مخابرات البحرية الأميركية العقيد البحري جيمس برادلي دراسة لكشف وسيلة الاتصال بين القاعدة البحرية لأسطول الباسيفيك السوفياتي في مدينة Petropavlovsk في شبه جزيرة كامشاتكا من جهة، ومقر قيادة الأسطول على البر السوفياتي الرئيسي في مدينة Vladivostok من الجهة المقابلة، وبخاصة أنّ بحر أوخوتسك يفصل بينهما.
اعتبر برادلي أنّ أسطول الباسيفيك المتمركز في أقصى الشرق السوفياتي يكتسب أهميّة عالية في الكرملين، فموقعه يجعله المشرف على مختلف أحداث الشرق الأقصى. وقد كان الأقرب إلى اليابان والكوريتين، والأهم قربه من فييتنام التي كانت تشهد تدخلًا أميركيًا مباشرًا، وبالتالي من البديهي وجود اتصال مباشر بين قيادة الأسطول والكرملين. في التحليلات التي أُجريت أيضًا، تبيَّن أنّ الاحتمال الأعلى هو أنّ الاتصال يتم من خلال كابل ممدود في عمق البحر.
كان العقيد برادلي على ثقة بأنّ القاعدتين لا بد وأن تكونا على اتصال دائم في ما بينهما، وأيضًا على تواصل مع موسكو. وكان على يقين بأنّه في حال أصابت تحليلاته بشأن الاتصال عبر كابل تحت البحر، فإنّ السوفيات لن يبذلوا جهودًا لتشفير الاتصالات، نتيجة اطمئنانهم بأنّ الكابل محمي، لكونه تحت الماء وعلى مقربة من الساحل السوفياتي في بحرٍ حركة الملاحة فيه مقيَّدة، لذا فإنّ أحدًا لن يكتشفه، واحتمال تعرّضه لخطر التنصّت شبه معدوم.
بعد التوصل إلى هذه الاستنتاجات عقد برادلي العزم على إطلاق عمليّة للكشف على البقعة المشتبه مرور الكابل عبرها، واختراقه في حال العثور عليه. واجه برادلي أربع عقبات أساسيّة لا يمكن تنفيذ المهمة من دون تذليلها:
١- تأمين التمويل اللازم.
٢- توفير قدرة التنفّس لفريق الغواصين على عمق يُقارب ١٤٠ مترًا تحت سطح البحر لعدة ساعات.
٣- الحاجة لمسح بحر أوخوتسك البالغة مساحته ما يُقارب ١٥٠٠ كلم٢.
٤- إجراء التوصيلات على الكابل من دون تعطيله.
تجاوز العقيد برادلي العقبة الأولى، بعد نجاحه بالحصول على تمويل لمشروعه من موازنة برنامج لتصنيع كبسولات إنقاذ في الأعماق للقوات البحرية الأميركية. حل العقبة الثانية كان من خلال مزج الأوكسيجين بالهيليوم بدلًا من النيتروجين، إذ إنّ الهواء الذي يستنشقه الإنسان يحتوي نيتروجين، وعندما يتعرّض جسم الإنسان لضغط الماء فإنّ النيتروجين يتراكم في الدم مسببًا انخفاضًا حادًا في ضغط الدم، قد يكون قاتلًا في حال حصول هذا الانخفاض بسرعة، أما الهيليوم فيخرج من أنسجة الجسم بسرعة وهذا أمر حيوي في الأعماق.
لم يجد العقيد برادلي صعوبة في تخطي العقبة الثالثة، ففي فترة صباه التي أمضاها على ضفاف نهر المسيسيبي كان يُشاهد علامات تُحذّر أصحاب القوارب من الرسو فوق أماكن مرور أنابيب الصرف الصحي في قاع النهر. واستنتج أنّ السوفيات حتمًا سيعتمدون إجراءات شبيهة، وهذا فعلًا ما اكتشفه البحّارة الأميركيون عندما دخلوا بحر أوخوتسك لتنفيذ المهمة، إذ لاحظوا وجود علامات تحظّر على الصيادين الاقتراب من بقعة محدّدة، فتيقَّنوا من مرور الكابل في أعماق هذه البقعة.
أما العقبة الرابعة والأخيرة، فتمّ تذليلها من خلال تصميم جهاز طوله ٦ أمتار يلتفّ حول الكابل، الذي يبلغ قطره ١٢،٧ سنتم، من دون إحداث أي ثقب بغلافه. تمّت برمجة الجهاز لينفصل عن الكابل تلقائيًا، ويغوص في الأعماق، عند رفع الكابل لإجراء أعمال صيانة أو أي أمر آخر.
في تشرين الأول ١٩٧١ بوشر تنفيذ العملية، دخلت الغواصة الأميركية USS Halibut إلى بحر أوخوتسك حاملة الفريق الأميركي المولج تنفيذ المهمة. لم يأبه الأميركيون بالمخاطر المحيطة بتنفيذ العملية، بل كانت أعينهم شاخصة على المردود الواعد من المعلومات المرتقب الحصول عليها في حال نجاح المهمة. تمّ العثور على الكابل السوفياتي على عمق ١٢٠ مترًا حيث نجحوا بتركيب جهاز التنصّت.
نظرًا لحساسية العملية تمّ تنفيذها بسريَّة تامة لدرجة أنّ تفاصيلها لم تكن معروفة إلا من الفريق المولج التنفيذ، حتى أفراد طاقم الغواصة لم يكونوا على دراية بالأمر. الرواية التي استُخدمت كغطاء للعملية تمحورت حول السعي لانتشال حطام صاروخ سوفياتي مضاد للسفن، لتفكيكه ودراسته بهدف اتخاذ إجراءات كفيلة بتحجيم الأضرار الناجمة عنه، وإنتاج أسلحة مضادة قادرة على مواجهته وتعطيل فعاليَّته. واللافت أنّ العملية التي استُخدمت كغطاء نجحت أيضًا، إذ تمكَّن الغواصون الأميركيون من الحصول على معلومات كافية عن الصاروخ.
أول عملية سحب للتسجيلات كشفت ما لم يكن بالحسبان، فالكابل لم يكن يحوي خط اتصال واحدًا، بل احتوى ما يُقارب العشرة خطوط، وبالتالي فإنّ التسجيلات المستخرجة كانت عبارة عن فوضى أصوات تتكلَّم بالروسية في الوقت نفسه ما يجعل الحصول على استخبارات من هذه الأصوات أمرًا مستحيلًا. لم تتوقف المهمة أمام هذا الفشل، بل سارع الخبراء والتقنيون إلى اختراع تجهيزات قادرة على فصل الأصوات وتمييزها عن بعضها، وهكذا بدأت الأسرار السوفياتية تتدفَّق إلى الأميركيين.
بدأ الأميركيون، وبوتيرة شهرية، بسحب التسجيلات ومعالجتها في وكالة الأمن القومي. لقد وضعوا يدهم على جميع الاتصالات التي تمر من خلال الكابل، والتي كانت بحدودها الدنيا تشمل المعلومات المتبادلة بين مقر قيادة الأسطول والقاعدة التابعة له، وترتفع بالأهمية لتطال حوارات ونقاشات الجنرالات السوفيات في ما بينهم، وأيضًا اتصالاتهم مع رؤسائهم في موسكو. كان ذلك بمثابة منجم ذهب، فمضمون هكذا اتصالات ليس عاديًا، بل أكثر من ذلك، يمكن اعتباره حيويًا ومصيريًا أيضًا.
في الواقع حقَّق الأميركيون نجاحًا منقطع النظير في هذه المهمة، وقد استمرّوا بنشاطهم هذا لمدة قاربت العشر سنوات لحين حصل ما لم يكن متوقّعًا. فقد رصدت أقمار المراقبة والتجسّس الأميركية في العام ١٩٨١ أسطول مراكب سوفياتية منتشرًا مباشرة فوق موقع تركيب جهاز التنصّت. فسارعوا لإرسال غواصة لسحب جهاز التنصّت، لكنّهم لم يعثروا عليه، ما أثار الشك والريبة في نفوسهم، من دون التوصل إلى تفسيرات مقنعة.
بقي الغموض سيد الموقف حوالى أربع سنوات، ففي تموز ١٩٨٥، وإثر فرار العقيد السوفياتي فيتالي يورتشنكو من جهاز KGB إلى أميركا، أزال هذا الأخير الغموض عن القضية وكَشَف خباياها. والمعلومات التي كشفها أذهلت الأميركيين بعدما عرفوا حقيقة دوافع المؤامرة التي أطاحت بالعمليّة وأدت إلى حرمانهم من مصدر وفير جدًا بالمعلومات، وقد أثبتت التحقيقات تورّط موظف في وكالة الأمن القومي فتمّ توقيفه.
وفي خلاصة المؤامرة، فإنّ الموظف رونالد بيلتون من وكالة الأمن القومي الأميركية كان غارقًا في ديون بقيمة ٦٥ ألف دولار، فقرَّر حل مشكلته المالية عن طريق بيع سر التنصّت على الكابل إلى السوفيات. في كانون الثاني ١٩٨٠ توجَّه إلى السفارة السوفياتيّة في العاصمة واشنطن وعرض عليهم المعلومات التي بحوزته. عقد معهم الصفقة لقاء مبلغ ٣٥ ألف دولار أميركي وتمّ تجنيده لصالح السوفيات.
من سوء طالع الموظَّف بيلتون أنّ العقيد السوفياتي الفار يورتشنكو كان هو الضابط الذي يُشغّله، وبالتالي فإنّ من جملة الأسرار التي سلَّمها وباح بها للأميركيين كان التفاصيل الكاملة لاكتشاف السوفيات عملية التنصّت على الكابل. بعد افتضاح أمره جرى توقيف رونالد بيلتون ومحاكمته، وقد صدر الحكم عليه بالسجن مدة ٢٩ عامًا أمضاها بالكامل، وأُطلِقَ سراحه في العام ٢٠١٥. أما جهاز التنصّت فقد استولى عليه السوفيات، واعتبارًا من العام ١٩٩٩ باتت رؤيته متاحة للعموم بعد عرضه في متحف الحرب الوطنية الكبرى في موسكو.
المراجع:
- Blitz, Matt: Secrets haunt the still-classified Operation Ivy Bells, a daring Cold War wiretapping operation conducted 400 feet underwater, 30-3-2017
- Wendorf, Marcia: Operation Ivy Bells: The U.S. Top-Secret Program That Wiretapped a Soviet Undersea Cable, 17-08-2019