- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
تدّعي إسرائيل نظريًا أن نظامها السياسي علماني، يقوم على فصل الدين عن الدولة، لكن عمليًا تحتل فتاوى الحاخامات اليهود، لا سيما فتاوى التيار الديني الصهيوني فيها، مكانة مركزية ضمن مكونات آليات التحكم والسيطرة في المجتمع والدولة. فهذا التيار بات يحظى بنفوذ كبير بسبب اندفاع أتباعه لتبوّء المراكز القيادية في الجيش والأجهزة الأمنية بشكل خاص. وتكون هذه الفتاوى في بعض الأحيان المحرك الرئيس لموقف شرائح واسعة من المجتمع في بعديه العسكري والمدني تجاه بعض القضايا، غير المتعلقة بالضرورة بقضايا الحياة اليومية او أمور العبادات أو الأحوال الشخصية، مثل فتاوى الميراث أو الزواج أو الطلاق. فقد تصدر الفتوى ايضًا عند حدوث واقعة طبيعية مثل التسونامي، أو إعصار كاترينا في الولايات المتحدة. والأخطر من ذلك هو إصدار بعض الحاخامات فتاوى تتعلق بقرارات استراتيجية تتخذها الحكومات الإسرائيلية مثل القرار الذي اتخذته حكومة اسحق رابين بشأن اتفاق اوسلو العام 1993 والذي اودى بحياته في ما بعد (1995) بموجب فتوى شرعية، وايضًا قرار أرييل شارون فك الارتباط من جانب واحد مع قطاع غزة (2005)، الذي صدرت فتاوى بتحريمه وهدر دماء من يوقّعه، وعدم الدعاء لصانعه بالشفاء.
والمثير للسخرية أن الأحزاب الدينية المتنافسة تستخدم بعض الفتاوى بشكل خاص لضمان تحقيق أكبر قدر من المكاسب الإنتخابية لأصحابها ومؤيديها عبر توظيف الدين بشكل رخيص ومبتذل. فعشية الانتخابات الأخيرة أصدر الحاخام عوفديا يوسف زعيم حركة «شاس» فتوى تنص على أن «كل من يصوت للحركة سيحصل على مكان في الدرجة الخامسة من جنة عدن»، مع العلم أن هذه الدرجة تعتبر أعلى درجات الجنة حسب النصوص الدينية اليهودية. كما أن يوسف توعد كل من يصوّت لخصوم «شاس» مثل حزب «إسرائيل بيتنا» بـ«اللعنة والهلاك». وفي الوقت نفسه تنشط المرجعيات المتشددة المتحكمة بالشؤون الدينية داخل الكيان، لإصدار صكوك «الحرمان» ضد خصومها السياسيين. بل وفي كثير من الأحيان يتم تضمين الاتفاقيات الإئتلافية التي على أساسها يتم تشكيل الحكومات في إسرائيل نصوصًا واضحة تقضي بالعمل بموجب فتاوى دينية محددة. فعلى سبيل المثال نص الإتفاق الإئتلافي بين حزب «الليكود» وحركة «شاس» على ضرورة أن تحترم حكومة بنيامين نتنياهو الحالية الفتوى التي أصدرها زعيم الحركة الروحي الحاخام عوفديا يوسف بشأن ضرورة إلتزام شروط التهود التي وضعتها المرجعيات المتشددة، والتي تعني اعتبار الكثير من المهاجرين الذين هاجروا من روسيا والدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي السابق غير يهود.
هذه الفتاوى باتت تهدد طابع إسرائيل العلماني «الحداثوي» المزعوم، وتكشف زيف إدعاء نخبها الحاكمة التمسك بالقيم الديمقراطية، وتدلل بشكل لا يقبل الشك على نفاق العالم الذي يكيل بمكيالين ازاء ما تمارسه هذه النخب من تعصب وتمييز عنصري ضد الآخر غير اليهودي. في هذا السياق يجب الاشارة إلى أنه بتاريخ 13-6-2008 أصدر خمسة عشر حاخامًا برئاسة الحاخام يعكوف يوسف (نجل الحاخام عوفديا يوسف)، فتوى صريحة تدعو للمسّ بالمدنيين الفلسطينيين بعد كل عمل مقاوم يستهدف يهودًا مستوطنين. حيث أجازت الفتوى أيضًا تدمير ممتلكات المواطنين المدنيين الفلسطينيين، على اعتبار أن هذا السلوك يمثل عملًا «رادعًا يوضح للفلسطينيين الثمن الباهظ الذي تنطوي عليه محاولة المس باليهود». وحسب هذه الفتوى فإنه ليس شرطًا أن يقوم الفلسطينيون بتنفيذ عمل مقاوم ضد اليهود حتى يتوجب القيام بعمليات انتقامية ضدهم، بل يكفي أن تكون هناك دلائل على وجود «نية» لديهم للقيام بهذا العمل. وفي السابع من أيلول 2005 أصدرت مجموعة أخرى من الحاخامات فتوى ضمنتها رسالة وجهت إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرييل شارون، حثته فيها على عدم التردد في المسّ بالمدنيين الفلسطينيين خلال المواجهات التي كانت مندلعة في الأراضي المحتلة، وجاء في الفتوى: «نحن الموقعين أدناه، ندعو الحكومة الإسرائيلية والجيش الاسرائيلي إلى العمل حسب مبدأ، من يقدم إليك لقتلك، سارع واقتله». وأضافت الفتوى: «لا وجود في العالم لحرب يمكن فيها التمييز بشكل مطلق، بين المدنيين والجيش، لم يحدث ذلك في الحربين العالميتين، ولا في حرب الولايات المتحدة في العراق، وحرب روسيا في الشيشان، ولا في حروب إسرائيل ضد اعدائها، ففي الحرب قومية تحارب قومية، قومية تنتصر على قومية»، على حد تعبير الموقعين على الفتوى.
وأردف الحاخامات: «السؤال المطروح أمامنا هو هل نحارب العدو من خلال هجوم يقتل خلاله مدنيون من صفوفه، أو نمتنع عن الحرب بسبب المدنيين فنخاطر بذلك بالمدنيين لدينا؟ الجواب على السؤال نجده ببساطة لدى الحاخام عكيفا (أحد مرجعيات الافتاء لليهود في العصور الغابرة)، الذي قال: «حياتنا هي الأولى». ولم يفت الحاخام مردخاي إلياهو أن يوضح أنه في الوقت الذي يطالب الحاخامات بالإنتقام من العرب فإنهم يدركون أن «ألف عربي لا يساوون يهوديًا واحدًا». والأدهى من ذلك أن الحقد والعنصرية دفعا عددًا من كبار مرجعيات الافتاء إلى إصدار فتاوى تتناقض حتى مع صريح التوارة. فإن كان لا خلاف على حرمة العمل في يوم السبت وفق الشريعة اليهودية وباتفاق كل المرجعيات الدينية على مر العصور، فقد أصدر الحاخام آفي جيشير الحاخام الأكبر لمستوطنة «عوفرا»، إحدى أكبر المستوطنات في الضفة الغربية والتي تقع بجوار مدينة رام اللـه، فتوى قبل عدة أشهر تبيح لشركات البناء العمل والبناء في المستوطنة أيام السبت من أجل تكريس حقائق على الأرض، ومنع الفلسطينيين من استعادة أراض لهم سيطر عليها المستوطنون في المنطقة بالقوة لإقامة حي سكني جديد خاص بهم. وبخلاف ما تنص عليه التوارة التي تحرم تربية الخنازير، فقد أفتى عدد من كبار الحاخامات في الضفة الغربية للمستوطنين بإجازة تربية قطعان الخنازير بهدف استخدامها في إتلاف المحاصيل الزراعية الخاصة بالقرويين الفـلـسطينيـــين المستضـعـفيـــن الذين يقيمون في أرضهم في محيط المستوطنات.