- En
- Fr
- عربي
أسماء لامعة
ملك «الهوشلة» المسكون بالمسرح والفنون
مسيرة تشكلت بين هموم الناس وناي الحنين
بين التمثيل والكتابة والإخراج، حقّق منير كسرواني ذاته الفنية مستثمراً ما اكتنزه من خبرة غنية.
«الصبي المهوشل» في أحراج بلدته ووعرها، ما زال متأبطاً حكايات الطفولة وناياً فيه من الشجن بقدر ما في وقفات صاحبه المسرحية من كوميديا.
حجارة الحقول والصنوبروموسيقى النَّوَر
في بلدة العيشية الجنوبية الساكنة بين غابات الصنوبر والسنديان ولد الفنان منير كسرواني العام 1949، وهو الولد الثالث في عائلة مؤلفة من تسعة أولاد (خمسة شباب وأربع بنات). والده السيد أسعد كسرواني (حدّاد عربي وبيطار ومزارع وفحّام)، والدته السيدة نبيهة أفرام نصر (ندّابة القرية).
كانت طفولته مزيجاً فيه روعة العيش في الطبيعة مع قساوة الحياة الجبلية ومرارة اللقمة. في جلول قريته تسنّى له جمع «زهر المسيح»، و«بزّ العنزة»، والزوفى والخاتمية. أحصى كل حجارة الحقول والأودية، وطار قلبه مع كل رفّ حجل تفاعل مع روائع الطبيعة، مع قطرات الندى، والغيوم المنثورة. كما عرف هناءة الغفوة تحت الصنوبر والسنديان، ومرارة النهوض في الثانية عشرة ليلاً لقطاف التبغ.
في أول كل صيف كان يأخذه سحر الجلسات عند النّوَر المخيمين في حرج صنوبر غير بعيد عن بيته. سحره صوت الرباب والطبل والدربكة ورقْصهم وغناؤهم وكيف يطوّعون الماعز على صوت الطبل، والحلوينة كرّاز للريس معروف.
حضر الأعراس وسابق الأولاد على جمع الكارميلا و«الدروبس» من بين أقدام الكبار. وكان ملك الحيل والهوشلة، والهريبة من المدرسة. كذلك عرف الغبار القادم من البيادر في أوقات «دراسة القمح»، ودار على «البيدر» حتى داخ تحت قيظ شمس تموز وآب، كما عرف كل أنواع العذاب في الحصاد والفلاحة وزراعة التبغ وصنع الفحم.
عاش طفولة قاسية وحرماناً من اللهو والمرح والتسلية إسوة بأولاد جيله في القرى. وكان والده قاسياً، وزاد في الطين بلّة أنه لم يكن طفلاً عادياً، بل كان ولداً مشاغباً، يسطو على بساتين اللوز وسهول الحمص والخيار، ويهرب من المدرسة خوفاً من قضبان الرمان...
تعلّم كسرواني من والده التصميم والصدق والطموح والجرأة والحماسة في العمل، أما المواويل الشعبية فاكتسبها من والدته، «ملهمته الأولى»، حيث كانت تخبره الأساطير وأخبار الجنّ والعفاريت، وأبو زيد الهلالي وتغريبة بني هلال والشاطر حسن وغيرهم...
نمت في نفس الطفل الروح المثالية، وعاشت هذه الشخصيات معه، لدرجة أنه لقّب بين رفاقه بأبي زيد الهلالي.
في عمر الخامسة عشرة بدأ مسيرته الفنية بالفطرة، فكان يحيي حفلات الغناء والرقص والتقليد (تقليد نَوَر القرية)، وكان الجميع معجباً بموهبة هذا الفتى، الذي أدخل الفرحة الى نفوس أهله وأهل قريته، ولكنه لم يكن يعلم في حينه أن هناك ما يسمى بالفن والمسرح.
كان كسرواني صاحب حيلة وحنكة ممزوجتين بالنكتة، وكان يمارس حيله على أشقائه تهرّباً من حصته في شكّ الدخان، الذي يحتاج الى كثير من الصبر.
بين مدرسة الأستاذ يوسف ونذور الدير
تلقّى علومه الإبتدائية في مدرسة العيشية الرسمية، ولم يكن يدرّس فيها سوى الأستاذ يوسف الخوري، الذي بذل تضحيات كبيرة من أجل طلابه. ويروي هنا كسرواني أنه عندما كان يهرب من المدرسة، كان والده يربطه في شجرة التفاح مكان الحمار، ويدعو رفاقه الى التجمّع حوله ونعته بالحمار، مقابل «فرنك».
بعد نيله الشهادة الإبتدائية، تابع دروسه التكميلية في مدرستي النبطية وجزين الرسميتين.
بعد نيله الشهادة المتوسطة (البروڤيه)، بدأت تجول في رأسه تساؤلات وجدانية كونية إيمانية، بحاجة الى أجوبة شافية، وشعر بالدعوة الرهبانية فالتحق بالرهبنة اللبنانية المارونية - دير سيدة المعونات في جبيل (دير للإبتداء) حيث أصبح إسمه الأخ شربل كسرواني. وبعد مضي سنتين بالإبتداء، أكمل نذره الأول، ودراسته الثانوية في الكسليك (جامعة الروح القدس اليوم).
ذاع صيته كفنان موهوب خلال وجوده في الدير، حيث قام بعدة نشاطات مسرحية تمثيلاً وكتابة وإخراجاً.
كتب أول أعماله المسرحية «أحلام متعثرة» متأثراً بالشاعر الجاهلي امرؤ القيس. كما لعب عدة أدوار مسرحية الى جانب الآباء جان أبي غانم ويوسف مونّس، في مسرحيات «سافونارولا»، «أصحاب الزنانير الجلدية» (للأب يوسف مونّس)، «أجراس بعيدة»، «الطاحونة» لجوزف عنداري نصاً وإخراجاً، وألحان وعزف ومشاركة مارسيل خليفة.
في تلك الفترة أدرك يقيناً أن الرهبنة ليست دعوته، ولم تتمكن من الإجابة على الأسئلة الكبيرة المطروحة!
الى التعليم فالتمثيل...
غادر الدير، والتحق بكلية التربية في الجامعة اللبنانية، حيث حاز شهادة الماجستير في اللغة العربية، وانصرف الى تدريس اللغة العربية في الثانويات الرسمية (بكفيا، جديدة المتن، وسن الفيل) كما درّس مادة العلوم في المعهد اللبناني في بيت شباب، وكان وزير الدفاع الياس المر أحد تلامذته. وهو منذ العام 2007 أستاذ لمادة التمارين التمثيلية في معهد الفنون الجميلة - الفرع الأول.
في أثناء دراسته في كلية التربية، علم بوجود معهد خاص بالفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، فالتحق به وتخرّج العام 1979 بدبلوم دراسات عليا في المسرح.
في معهد الفنون، درس على يد ريمون جبارة، وموريس معلوف، وأنطوان ملتقى، وأنطوان كرباج، وشكيب خوري، وجورجيت جبارة وغيرهم، واستفاد من خبرتهم. بدأ أساتذته يختارونه بطلاً لأعمالهم المسرحية، علماً بأنه كان ممنوعاً إشراك أي طالب من قسم التمثيل في السنة الأولى بالأعمال المحترفة خارج المعهد. وهكذا فقد لعب أدوار البطولة الى جانب موريس معلوف في مسرحيته «لعبة السماسرة» (1973)، ومسرحية لموليير (فولبيري دوسكابن) قدّمت على مسرح غولبانيكيان في الجامعة اللبنانية الأميركية (أيار 1974).
يتذكر كسرواني امتحان الدخول الى معهد الفنون الجميلة يومها «رفضوا أن أجري الإختبار. قالوا لي: لا يحق لك أن تتقدّم من الإمتحان، لأنك لا تحمل نصاً عالمياً»، فقلت: «أعطوني نصاً الآن». صاروا يضحكون وطلبوا من شكيب خوري أن يعطيني نصاً، فطلب مني أن أجسّد دور الحارس الذي كان مولجاً بحراسة الجثة في مسرحية «أنتيغونا». انتظرتُ كي يقدّم رفاقي نصوصهم. وفي ذلك الوقت، حفظتُ الدور، ثم قدّمته في النهاية. كان عندي ثقة بنفسي، أردتُ أن أكون ممثلاً، تقدّمتُ كقنبلة موقوتة وأدّيت الدور أمام اللجنة وعندما انتهيت قال شكيب خوري: هذا سيكون أفضل تلميذ عندنا خلال أربع سنوات». وفعلاً صحّ تنبؤ أستاذه لأنه تصدّر الطليعة خلال الأربع سنوات، ونال مشروعه للتخرّج المرتبة الأولى.
فنان متعدّد المواهب
بعد تخرّجه من معهد الفنون الجميلة بدأ منير كسرواني عمله كفنان محترف مع أستاذه ريمون جبارة في مسرحية «شربل» (1978) وبعدها في مسرحية «دكر النحل».
العام 1980 عمل مع الأخوين رحباني، حيث لعب دور رجل المبادرة العربية في مسرحية «المؤامرة مستمرة»، ودور المحامي في مسرحية «الشخص».
وبعد ذلك، لعب دور «السكران» في مسرحية «لعب الفار» لجورج فيدو من إنتاج مروان نجار وإخراج غسان مجاعص وناجي معلوف (1985).
مع الفنان كريم أبو شقرا، برزت قدرة الفنان منير كسرواني المتميزة، حيث تمكّن من لعب ستة أدوار مختلفة في مسرحية «جرجي درس الموضوع» («الجندي»، «المعاق»، «معلم عمار»، «زوج مثالي»، «ولد عبيط طالب زواج» و«سكاف أرمني»).
تابع كسرواني مسيرته متألقاً في «بالنسبة لبكرا شو» لزياد الرحباني، و«الشلمسطي» لفارس يواكيم (إخراج نقولا دانيال) وغيرها من الأعمال، قبل أن ينصرف الى تأسيس مسرحه الخاص عبر سلسلة كانت «إسماعين بالطائف» أولى حلقاتها.
«عندما لا أمثّل أو أكتب هو يوم غير موجود في روزنامة حياتي»، هكذا يعبّر الفنان كسرواني عن شغفه بالمسرح وبالكتابة المسرحية التي وظّف فيهامخزوناً ثقافياً وتراثياً هائلاً. المسرح بالنسبة اليه «فن خالص وكتابة المسرح عملية خلق لا عملية تعبير. الخلق عملية تحويل ما هو موجود الى كائن جديد، والمسرح ليس صورة طبق الأصل».
الأعمال المسرحية التي كتبها وأخرجها منير كسرواني عديدة ومنها:
«إسماعين بالطائف» (1989) من تأليفه وإخراجه، «وزارة للهوارة» (1993) تأليفه وإخراج فاروجيان خيدشيان، «فلت الملق» (1996) تأليف منير كسرواني وميراي بانوسيان، إخراج فاروجيان خيدشيان.
ويقول الفنان كسرواني: مع «اسماعين بالطائف» استقبل الناس مسرحي بالدهشة والإستفهام والتصفيق. وبعدها بدأت أشعر بخطورة الخطوة التي أقدمتُ عليها أي بتأسيس مسرح خاص بي، مسرح يشبهني ويحمل همّي الذي أشترك به مع همّ الناس وتطلعهم... بعيداً عن مقولة مسرح للنخبة فحسب.
وأضاف: البداية الهامة كانت مع «وزارة للهوارة» التي دام عرضها 3 سنوات ونصف حيث عرضت في مسارح ثابتة، الأوديون وجان دارك وڤرساي، ثم تجوّلت في كل المناطق اللبنانية.
«وزارة للهوارة» ارتبطت باليومي، وحملت إحساساً حقيقياً وقضية حقيقية، وهي قضية شعبنا في جنوبنا اللبناني، كما يقول كسرواني الذي يضيف: في هذه المسرحية تجسيد للذاكرة الشعبية وما تختزنه من صور قوامها الأهازيج، والظلم، والهلوسة، واجتياح الأرض والوحشية وفشل السلطة وصمود الناس. وقد اخترت لهذه المسرحية فضاء زمنياً معيناً هو: لبنان بعد الحرب الأهلية.
يعتبر كسرواني أن الأعمال التي قدّمها سواء كانت من كتابته أو لآخرين - كما هي الحال في «بالنسبة لبكرا شو» لزياد الرحباني أو الشلمسطي لفارس يواكيم، هي أعمال رصدت الواقع الإجتماعي المتغيّر والمتبدّل والمتحوّل. كما رصدت المتغيرات الاقتصادية والسياسية بعد الحرب، وهذا الرصد كان فظّاً وفاضحاً خصوصاً في مسرحية «فلت الملق». في الأعمال الأخرى ك«فوق الدكة» و«مواطن عمومي» و«اسماعين بالزفة» و«الله يهدّك يا إسرائيل»، حاولت تجريب الأشكال من عمل الى عمل آخر من أجل اختراق آفاق جديدة، من خلال استقراء الواقع واستشراف المستقبل، كما حاولت تخطّي ذاتي وتلافي الأخطاء التي وقعت فيها.
مسرحه يطمح الى التغيير
ينطلق مسرح منير كسرواني من تفاعله كفنان صاحب روح ثورية مع واقع مجتمعه ومشاكل هذا الواقع، متوخياً «أن يكون مسرحي للتغيير لا للترفيه، وأن أحقق أعلى درجات الإتصال بين الممثل والجمهور، مبتعداً عن مقولة الفن للفن، موظفاً الأسلوب الساخر والصور الكوميدية في خدمة غرض المسرحية». أما أغراض مسرحه فمحورها تشريح الواقع المرفوض وتغييره. لكن ذلك لا يعني أن الواقع برمته مرفوض فثمة جوانب مشرقة تصدّى لها كسرواني، وأبرزها المدّ التصاعدي في وجه العنجهية الإسرائيلية، وخطابه الموجّه الى الجمهور في هذا المجال مؤداه الشهادة للخط الوطني كما يقول.
الى أعماله في المسرح شارك منير كسرواني في ما لا يقل عن 500 حلقة تلفزيونية وإذاعية، عزف الناي وقرأ الشعر في أمسيات جميلة.
آخر أعماله المسرحية كان «حكم قراقوش» من تأليف د. منصور عيد، وإنتاج جامعة سيدة اللويزة.
أما آخر أخباره فهو أنه ما زال وسيبقى على الأرجح، ذلك الصبي «المهوشل» بين الحفافي الوعرة، والهارب الى المطلات الجميلة حاملاً ناياً أهداه إياه خاله الكاهن حنا نصر، أستاذه في العزف على الناي، وحاملاً ايضاً الكثير من الشجن والحنين...
أوسمة وجوائز ودروع تقديرية
حاز الفنان منير كسرواني العديد من جوائز التقدير والدروع على مسرحياته ومسيرته الفنية الإبداعية وأهمها:
- درع تقديري لمسرحيته «اسماعين بالزفة» في مهرجان قب الياس.
- درع تقديري في مهرجان الرواد العرب - القاهرة 2002.
- درع تقديري من الرئيس نبيه بري لمسرحيته «فلت الملق».
- مفتاح مدينة أوستراليا من بلدية فيدفيلد - سيدني 2004.
- درع من الحركة الثقافية واتحاد بلديات الشقيف 2008.
- درع من جمعية نور في حاصبيا لمسرحيته «عالحدود».
- درع المركز الثقافي - النبطية تقديراً لمسيرته الفنية والإبداعية 2010.
تأسيس عائلة
العام 1980 تزوج منير كسرواني من إحدى طالباته السيدة ندى عبد الأحد (ربة منزل)، ورزقا خمسة أولاد:
- رنا، تأثرت بوالدها فتخصّصت في مجال المسرح والسينما، وهي تعمل اليوم في الإخراج التلفزيوني في إيطاليا.
- إيلي، حائز شهادة في هندسة الكومبيوتر من لندن، وهو متزوج ويعيش في مصر.
- جيسي، تعمل في حقل الترجمة مع القوة الإيطالية التابعة لقوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب.
- ناي، طالبة في كلية التربية - الجامعة اللبنانية، قسم اللغة الفرنسية.
- جاد، يتابع دراسته الثانوية.