- En
- Fr
- عربي
ثقافة وفنون
لأنها وجه الجيش ويجب أن يكون وجهاً لائقاً
قِدم الموسيقى وتاريخها من قِدم العالم نفسه وتاريخه، فقبل أن يتكلم الانسان كان يردد الأصوات المنبعثة من الطبيعة، بصوته أو بواسطة أشياء للتعبير عن مشاعره ورغباته. لذا فالموسيقى ليست وليدة مدنية بل هي ولدت مع الانسان ونمت وتطورت معه لما لها من تأثير على نفسه وأحاسيسه.
لبنان كغيره من البلدان عرف الموسيقى منذ أقدم العصور، ولعلّ تعرّض هذه الأرض الطيبة لفتوحات الطامعين المتتالية والتي انتهت بالسيطرة العثمانية لأربعة قرون ونيف، حالت دون اظهار هذا الفن وتطوره.
أما إنشاء الموسيقى العسكرية في العالم التي نحن بصددها فقد رافق إنشاء الجيوش ولازمها. فمن وصف المؤرخين للمعارك عندما يقولون «اصطف العسكر وهجموا هجمة واحدة ناشرين الإعلام قارعين الطبول نافخين الزمور»، يتبين لنا أن صوت الموسيقى الإيقاعي كان أحد عناصر المعركة لما له من تأثير على نفوس المحاربين. وقد لاقت الموسيقى العسكرية دائماً اهتمام كبار القادة. فنابوليون الكبير كان عندمـا يزور إحدى القطـع ولا يرى موسيقى، يقول: «من المؤسف أن لا يكون لهذه القطعة فرقتها الموسيقية».
وللموسيقيين العسكريين الفضل الكبير في رفع شأن هذا الفن، ففي فرنسا مثلاً جمع أحد الضباط الموسيقيين النقيب الموسيقي برنار ساريت 1789سبعين موسيقياً عسكرياً من مختلف الوحـدات في الجيش وكانـت موسيقى الحـرس الجمهـوري (musique de la garde républicaine). وفي الثالث من آب 1793 أنشئ في باريـس المعـهـد الوطني للموسيـقى (Conservatoire national de musique) بإدارة النقيب ساريت نفسه يعاونه أساتذة موسيقيون معظمهم من العسكريين.
أما في التاريخ الحديث وعلى وجه التحديد في النصف الثاني من القرن المنصرم وعندما تنفس لبنان الصعداء في عهد المتصرفية، كان له موسيقى عسكرية لا يزيد عددهـا عن الثلاثين رجلاً، مركزها بعبدا شتاءً وبيت الدين صيفاً، مناطة بها مهمة لا تختلف كثيراً عن المهـمة الموكولة إلى الموسيـقى في يومنا هذا، فللعلم والرؤساء معزوفات، أما الطبول فتقرع ايذاناً بصدور الأوامر مسبوقـة بنداء التحية (باديستاهم تشوك يا شاه) ومعنـاه «يعيش كثيراً السلطان». ولذكرى تنصيب السلطان والحفلات الترفيهية النصيب الأكبر من الموسيقى، لا سيما عندما كان يزور والي بيروت متصرف جـبل لبنان، فالاستقبـال كان يقـام في فرن الشباك، حيث حدود الولاية، وتتمـركز الموسيقى على رأس الطابور وتؤدّي مراسم التكريم الخاصـة بهذه المناسبـة.
بعـد الحرب العالمية الأولى ووضع البلاد تحت الانتداب الفرنسي، لم يعد لموسيقى لبنان اثر بسبب الفوضى التي عمّت البلاد أثناء الحرب، وقد أسّس الفرنسيون موسيقى أطلقوا عليها اسم موسيقى جيوش الشرف (musique des troupes du levant)، معظم أفرادها من الأجانب ومن مختلف الجنسيات إلى قلة من اللبنانيين والسوريين. وكان عددها مئة وأربعين موسيقياً بإمرة النقيب الموسيقي الفرنسي بريفان، وقد تمركزت في مار الياس بطينا وعلى وجه التحديد في المكان القائم عليه حالياً ميتم القديس يوسف للراهبات اللعازاريات. أما آلاتها الموسيقية فكانت من نفس الآلات المستعملة حالياً في موسيقى الجيش عدا القرب (les cornemuses) التي أدخلت إلى الموسيقى عام 1951. وفي العام 1929، تخلّى النقيب بريفان عن قيادة الموسيقى وعاد إلى بلاده اثر مرضه، فتسلم الملازم أول الموسيقي الفرنسي جان فيول امرة الموسيقى وذلك عام 1930 يعاونه المعاون أول الموسيقي الفرنسي لوسيور والرقيب الأول الموسيقي الفرنسي دوتريه ورئيس فرقة الأبواق والطبول جامبور ماجور. ومع تحسين الأوضاع العامة، عاد المحاربون تباعاً إلى أوطانهم أو مراكزهم الأساسية ومن بينـهم الموسيـقيون الأجانب، فحـدث نقـص كبير في موسيقى جيوش الشرق وقد وصلت بعديدها إلى خمسين موسيقياً معظمهـم من اللبنانيـين، أما السـوريون فكان عددهـم لا يتعدى عدد اصابع اليد الواحدة. تنبه الرؤساء إلى ذلك خصوصاً الجنرال القائد الأعلـى لجيوش الشرق ومنذ تولّيه منصبه حسب مجلة الموسيقى الباريسية في عددها 196 تاريخ 10/12/1937 أبدى اهتمامـاً خاصاً بمظـهر الموسيقى وتحسـين أوضاعها إلى أن أصبحـت على مستوى عالٍ، تقدّم المقطوعات العالمية الرفيعة. غير أن هذه الانطلاقـة لم تدم طويلاً، ففي العام 1941 حين دخلت أثنـاء الحرب العالمية الثانـية جيوش الحلـفاء ومنها جيش فرنسا الحرة (F.F.L.)، لم يكن النقيب الفرنسي الموسيقي فيول من الديغوليـين فأبحر مع الكثيـرين عائدين إلى بلادهم. وقد أحدث هذا نوعاً من الفوضى ألغيت على اثره الموسيقى وأرسلت آلاتها الموسيقية إلى مدرسة عينطورة لحفظها. أما عناصرها فأرسلت إلى زوق مكايل ثم خيّرت بين الالتحاق بفوج القناصة الرابع أو التسريح، فالتحق البعض وسرّح البعض الآخر. لكن بعد أقل من شهر واحد، استدعى قائد موقع بيروت المفـوّض الكولونـيل رافيل جميع العسكريين الموسيقيين وأعاد تنظيم الموسيقى، وقد أطلق عليها اسم موسيقى الموقع (musique de garnison) وتمركزت في مدرسة الصنائع في رأس بيروت بإمرة الرقيب الأول الموسيقي الفرنسي سيروي. كان الصف ضابط هذا يميل إلى الفوضى وبسبب إدمانه على الخمرة كثرت مخالفاته، وحدث أن كلفت موسيقى الموقـع صباح عيد الفصح المجيد للطائفة الأرمنية استقبال اللواء الفرنسي القائد الأعلى لجيوش الشرق وبعض الشخصيات الرسمية أمام كنيسة الأرمن في ساحة الدباس، وقد حددت الساعة التاسعة موعد التمركز. غير أن آمر الموسيقى أمر خطأً بالتمركز الساعة العاشرة، فوصل الرؤساء والشخصيات ولم تكن الموسيقى قد تمركزت بعد. ثار قائد الموقع لهذا التصرف وعند حضور سيروي نقل فوراً من المكان وأبعد عن الموسيقى، وأمر قائد الموقع الكولونيل رافيل باستدعاء الرقيب الموسيقي اللبناني المتقاعد خليل نجم الذي رقي إلى رتبة رقيب أول وتسلم امرة الموسيقى، ثم رقي لاحقاً إلى رتبة معاون فملازم واستمر على رأس الموسيقى بعد تسلم الحكومة اللبنانية الجيش الوطني، وأطلق على الموسيقى اسم موسيقى الجيش، وأصبحت مفرزة من سرية الحرس الجمهوري في لفـيف المـقر العام وتمـركزت قرب ثكنة اميل الحلو مار الياس بطينا. لم تحتفظ موسـيقى الجيـش بالمستوى المطلوب بل تقهقرت فنياً تقهقـراً ملموساً أثنـاء امـرة النقيب خليل نجم ربما بسبب تغيبه الكثير بداعي المرض. وفي العـام 1956، أمر حضرة اللواء فؤاد شهاب القائد الأعلـى للجيـش بالاستـعانة بأحد الخبراء الموسيقيين الفرنسيين النقيب الموسيـقي كميل هنري بوفور، الذي استقدم خصّيصاً لإعادة تنظيـم الموسيقى إثر إحالة النقيب خليل نجم على التقاعـد عام 1956 وتسلم المعاون أول مهـران ارسلانـيان امـرة الموسيقـى بالوكـالة بانتـظار وصول الخبير الفرنسي الذي حضر في أيلـول عام 1956. وبعد دراسة وافية لأوضاع الموسيـقى بمساعـدة صفـوف الضـباط، وضـع لهذه الفرقـة نظـاماً جديداً يشـبه إلى حد بعـيد النظـام المعمول به في موسيقى الحرس الجمهوري الفرنسي، وصـدر عن القيادة العليا بمذكرة خدمـة عـدد 5954 /1 تاريـخ 19 /11 /59 باسـم تعليـمات تتعلـق بموسيـقى الجيـش.
احـيل المعاون أول ارسلانيان على التقاعد بناءً لطلبه عام 1958، وبناء لاقتراح الخبير الفرنسي بوفور أسندت امرة الموسيقى إلى الرقيب الأول الموسيقي لويس المعوشي الذي رقي لاحقاً الى معاون فمعاون أول، وأخذت الموسيقى تتقدّم بفضل الصلاحيات الواسعة التي أعطتها القيادة إلى الخبير الفرنسي. ومن هذه الصلاحيات اعادة التصنيف بعد أن لحق بعناصرها غبن لمدة طويلة - اعادة التصنيف تعني خضوع جميع عناصر الموسيقى لامتحان كفاءة فنية حسب القانون الجديد وبالتالي ترقية المستحق من هذه العناصر إلى الرتبة الموازية لكفاءته - وقد رقي الكثيرون إلى رتبة أعلى، فمثلاً رقي الجندي الموسيقي جوزيف صوغومون من رتبة جندي موسيقي إلى رتبة رقيب موسيقي بدون المرور برتبة عريف موسيقي. هذا وقد أعفيت عناصر الموسيقى من بعض الواجبات العسكرية كالحراسة والكلفة وأصبح دوام العمل شبيهاً بدوام عمل القيادة في وزارة الدفاع، فتفرغت عناصر الموسيقى إلى العمل الفني دون سواه. وبسبب ما لقيته الموسيقى من استحسان كثير من القناصل الأجانب المعتمدين في لبنان، والتهاني المتكررة بعد الحفلات والتشريفات المنوطة بها، حظيت بعناية خاصة من الرؤساء. ففي مذكرة الخدمة عدد 269 /3 تاريخ 21 /11 /66، يقول قائد الجيش العماد اميل بستاني: «تعتبر الموسيقى وجهاً للجيش ويجب أن يكون وجهاً لائقاً». فبفضل هذا الاهتمام والعناية الخاصة سارت الموسيقى قدماً نحو التقدّم والازدهار وقد سمحت القيادة بإرسال بعض من عناصرها إلى المعهد الموسيقي الوطني للتخصّص على يد أساتذة أجانب على بعض الآلات، وذلك بغية إكمال الآلات الضرورية للأوركسترا السمفونية.
كان الخبير الفرنسي بوفور يدرّب العناصر منفردين ومجتمعين داخل الثكنة، بينما يتولى المعاون الأول المعوشي امرة وإدارة التشريفات والحفلات خارج الثكنة.
حددت مذكرة الخدمة موضوع تعليمات تتعلق بموسيقى الجيش، عدد عناصرها مئة وأربعة عشر موسيقياً، وقد قسّم العدد على النحو الآتي:
فئة الموسيقيين: وهم الموسيقيون العازفون على الآلات ذوات السلالم الكاملة.
فئة الأبواق: يعزف كل موسيقي على بوق المشاة - بوق الخيالة - قرن الصيد.
فئة الطبول: الموسيقيون ناقرو الطبلة، ضارب الطبل، الصنّاج.
فئة القرب: الموسيقيون عازفو القرب (Cornemuse).
فئة الموسيقى الخفيفة: الموسيقيون (فرقة الجاز).
المنشدون: كامل عناصر الموسيقى.
في الأول من الشهر السابع من العام 1970، رقّي المعاون الأول لويـس المعوشي إلى رتبة ملازم موسيقي وأصبح يتمتع بصلاحيات آمر وحدة مستقلة. وقد أصبحت موسيقى الجيش سريـة من فوج الحرس الجمهـوري، وفي 1 /8 /1970 رقي التلميذ ضابط الموسيقي استفان دونيان إلى رتبة ملازم موسيقي معاوناً لآمر السرية، والموسيقى على مستوى رفيـع فنيـاً، مكتبتـهـا زاخرة بالمقطوعات السمفونية العالمية، تؤدي كافة المهمات من استقبالات وحفلات ترفيهية في الحدائق العامة وفي المدن وقرى الاصطياف.