كورونا بأقلامهم

واجهت مختلف شرائح المجتمع تداعيات فيروس كورونا الذي طال حياة الناس اليومية، فشكّل نقطة تحوّل في مسيرتهم الإنسانية. من بين هؤلاء كتّاب وأدباء اعتنقوا الكلمة والقلم سبيلًا في المواجهة. فكيف شهروا سلاحهم لمحاربة عدو البشرية الجديد؟ وما هي السبل التي اعتمدوها للتعايش مع هذا النمط المستجد من الحياة؟ في ما يأتي، أمثلة وخبرات يتشاركونها مع قرّاء مجلة «الجيش».

ميشال كعدي: أكثر من كتابَيْن!

استسلمت قسرًا للمصيبة الكونية، التي مُنيَ بها البشر، عنيتُ بالمصيبة، ولم أعنِ سواها «الكورونا».

ومنذ اللحظة الأولى قررتُ تخطّي هذه التجربة المُرّة على الملأ، ورسمتُ تخطيطًا يملأ الفراغ القاتل للنفس والطموح.

وقصدتُ أن أنهي أكثر من كتابَيْن لأُغلق على التسعين كتابًا.

لم أتوانَ أبدًا. ورحتُ بكل ما أوتيت من إرادة، لأتجاوز هذه المحنة الاجتماعية التي لم توفِّر أصقاع الدنيا في العالم كله مرددًا قول الشاعر: «ومصائبُ قوم عند قوم فوائدُ».

بدأت المسيرة الكتابية عبر المخطط الذي رسمته، وذلك، بالتأليف وكتابة الدراسات الأدبية التي تناولت فيها الكثير من عظماء الأدب والشعر، خصوصًا المنسيين أمثال رشيد أيوب وحليم دمّوس وعمر أبو ريشه والإمام الأوزاعي وغيرهم.

وقد تجلّى هذا العزم بخلق طاقة تتجدد يوميًا برفقة أقلامي بحدود العشر ساعات يوميًا من الكتابة.

بلى! نجحت الخطة، وأتممت ما كنت أحلم به.

ثم سعيتُ بشكلٍ حثيث لقتل الوقت الضائع ومبتذل الأيام. أعطيتُ صفحات تمتاز بها العين والقلب والذائقة والطمأنينة التي تستريح في لقاء النفس.

ما أنتجتُه خلال هذه الفترة التي جعلتنا نلتزم البقاء في المنزل، الإعفاء من تعب النفس، السأم، الضجر، وتطبيق القوانين التي أفضّلها بكثيرٍ من الجدية.

وإذا كان الحدث المرّ فوق المعتاد، فإنّ الجِد قاهر للمصائب والكوارث مهما كانت طاغية.

ريتا الخوند: بالقلم والصوت والإصرار

لم تكن جائحة كورونا الوبائية هجومًا بيولوجيًّا عالميًّا هدّد الأمن الصحي فحسب، إنّما أيضًا حدثًا وبائيًا خرج عن السيطرة ليهدّد الأمن النفسي بشكلٍ مخيف، بعد أن أودى بحياة الملايين محدثًا أحزانًا وذعرًا وصدمات اقتصادية  وفقرًا، بالإضافة إلى الحجر المنزلي الذي أدّى إلى تغيير جذري في نمط الحياة جملة وتفصيلًا، خصوصًا في بلد مثل لبنان متعدد ومتشعّب الأزمات أصلًا، ولشعبٍ هو الشعب اللبناني الغارق منذ ما قبل الكورونا بأزماتٍ مصيريـة أنهكت كيانه وسلامته وأمنه المـادي والصحـي والنفسـي...

أثبت كوفيد-١٩ قدرته على إصابة الجميع، ولا يمتلك أحد إلى الآن القدرة على تحصين الإنسانية منه بلقاحٍ، لذلك كان لا بد من لقاح نفسي، من طاقة إيجابية، ومن حوارات توعوية كرّستُ لها قلمي وبرنامجي الإذاعي «دردشات» من إذاعة صوت النجوم، وكذلك صفحتي الرسمية على الفايسبوك التي تحظى بمتابعة حوالى الخمسين ألف شخص، فحوّلتُ كتاباتي ودردشاتي إلى حلقات تحفيز وتوعية، وإلى جرعة زائدة من الطاقة الإيجابية من خلال طرحي لمواضيع حياتية آنية، فيها من الأمل والتفاؤل والتسليح النفسي والمعنوي والصحي، من أجل التدريب على التعايش مع هذا الوباء الشرس، وتجنّب كل ما يسبب انتشاره، فابتكرتُ لِمستمعي «دردشات» «لايف ستايل» لمواجهة كورونا الذي لم يقتصر على كونه هجومًا بيولوجيًا إنما نفسيًا أيضًا، أطاح بمعنويات الأفراد والمجتمعات وطموحاتهم وقدراتهم على التأقلم مع أوضاع غريبة شاقة غير مهيّئين لها...

صدّع كورونا أشخاصًا وأزواجًا وعائلات فاشتدّت ظاهرة التعنيف الأسري واستفحلت الجرائم العائلية البشعة...

من أجل كل هذا، أنا كإعلاميةٍ وكأديبةٍ رفضتُ الاعتكاف والابتعاد في زمن المهمات المستحيلة، فتحوّلتُ من الـ«لايف» في استوديو الإذاعة إلى التسجيل في البيت دعمًا لحملة «خلّيك بالبيت»... وهذا العمل كان مضنيًا تقنيًا لكن نتائجه الإيجابية كانت جائزتي الكبرى !!!

كورونا جعلني أتسلّح بالقلم وبالصوت وبالإصرار... وكورونا حثّني كي أبذل كل ما أستطيع كي أضيء ولو شمعة في زمنه الأسود، فأدركتُ أنّه ليس بالدواء وحده نحارب المرض، إنما بالمواجهة والعطاء ونشر الكلمة الإيجابية والدعم والتشجيع والتوجيه... لذا لم أهرب في زمن كورونا إنما اخترت أن أساهم بمكافحته والأفق مفتوح بوضوحٍ وللجميع وكلنا يحتاج كلنا كي نكسب المعركة !!!

جورج لبكي: سحر الكلمات يرفع الناس من جديد

لقد حطّمت كورونا هذا الفيـروس الصغيـر الغرور الإنساني، وذكّر الإنسان بأن لا العلم ولا التكنولوجيا تجعله يعيش بأمانٍ ويتغلّب على الكون وعلى الطبيعة وربما على الخالق.

وأمام السجن الانفرادي الذي فُرضَ علينا، أخذتُ وقتًا مستقطعًا لأُعيد النظر في مسيرة حياتي الصاخبة بالعمل ليل نهار، والعلاقات الاجتماعية والمراسلات والكتابة. فتساءلت: هل أضحى من معنى للكتابة؟ فالإنسانية تنهار وكذلك الدول العظمى وتتوقف الأعمال ويموت الناس بالآلاف ويُصاب الملايين.

هل فعلًا من معنى للكتابة أمام الملايين من العاطلين عن العمل المهددين بالمجاعة في عصر التكنولوجيا والطب الحديث ومشاهد الموتى بالآلاف يُرمون في المقابر؟

ولمن نكتب؟ فالكورونا طبعت الحياة اليومية وجعلت المرء ينتقل ويتصرف كأنه في وسط حقل ألغام.

ولكن سرعان ما تغلّبت إرادة الحياة. عدتُ إلى الكتابة والتأليف لأنّ الحياة يجب أن تستمر ويجب أن تنتصر على الصعاب التي حاصرَتها منذ بداية الكون ونشوء التاريخ. وسيخرج من العسر يسرًا وتعود المسارح والمكتبات تعجّ بالمشاهدين والقراء.

يبقى أن يكون القلم في خدمة الحقيقة التي تضع الإنسان في وسط الكون وليس الاقتصاد أو الشراهة أو الطمع والجشع.

ستكون الطريق صعبة ولكن غير مستحيلة. فنحن نعيش اليوم في عصر البؤساء الجدد الذين اعتقدنا أنّهم رحلوا إلى الأبد. ولكلٍ من هؤلاء قصة ورواية ومقالة فكتاب.

إن كتاب الحياة ممتلئ بالأحداث وهو يسير بنهجٍ واحد ومتكرر: ولادة، نمو، موت فأبدية. يحزن الإنسان على مآسي الحياة والكوارث كالتي نعيشها اليوم. ولكن على الكاتب أن يشكل الرافعة التي تعيد الأمل حيث لا أمل، ويُحفّز حيث يجد التردد، ويفتح آفاقًا جديدة بحجم الكون ويكسر مناخ الخوف والانغلاق. فالأدب سمو وشموخ ووقوف في وجه العاصفة ومكائد الطبيعة البشرية والوجود. أما قتل الفكر فقتلٌ للحياة، والخنوع تحنّط ومقدمة للاندثار.

لا يُخفى أنّ التحديات كبيرة وعميقة ومتشعبة وحقيقية، ولكن للمبدع أن يرفع بواسطة سحر الكلمات الناس والمجتمع من جديد إلى العُلى فوق القُبَبِ والأبراج، فيولد الأمل من جديد وتعود الحياة.